وَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ سَائِرِ الْمُلُوكِ لِمَا عَلِمُوا مِنْ صِحَّتِهِ.
فَبَيْنَمَا الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ فِي الصُّلْحِ، إِذْ مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَسَارَ مَنْ كَفْرِ زَمَّارٍ عَائِدًا إِلَى حَرَّانَ، فَلَحِقَهُ الرُّسُلُ بِالْإِجَابَةِ إِلَى مَا طَلَبَ، فَتَقَرَّرَ الصُّلْحُ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ عِزُّ الدِّينِ شَهْرَزُورُ وَأَعْمَالَهَا وَوِلَايَةَ الْقَرَابْلِيِّ، وَجَمِيعَ مَا وَرَاءَ الزَّابِّ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَيُضْرَبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، فَلَمَّا حَلَفَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ فَحَلَفَ عِزُّ الدِّينِ لَهُ، وَتَسَلَّمُوا الْبِلَادَ الَّتِي اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى تَسْمِيَتِهَا.
وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حَرَّانَ، فَأَقَامَ بِهَا مَرِيضًا، وَأَمِنَتِ الدُّنْيَا، وَسَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، وَانْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْفِتَنِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِتَوَصُّلِ مُجَاهِدِ الدِّينِ قَايْمَازْ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ طَالَ مَرَضُهُ بِحَرَّانَ، وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَلَهُ حِينَئِذٍ حَلَبُ، وَوَلَدُهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ، وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ حَتَّى أَيِسُوا مِنْ عَافِيَتِهِ، فَحَلَفَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِ، وَجَعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْبِلَادِ مَعْلُومًا، وَجَعَلَ أَخَاهُ الْعَادِلَ وَصِيًّا عَلَى الْجَمِيعِ، ثُمَّ إِنَّهُ عُوفِيَ وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَلَمَّا كَانَ مَرِيضًا بِحَرَّانَ كَانَ عِنْدَهُ ابْنُ عَمِّهِ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ شِيرِكُوهُ، وَلَهُ مِنَ الْأَقْطَاعِ حِمْصُ وَالرَّحْبَةُ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى حِمْصَ، فَاجْتَازَ بِحَلَبَ وَأَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَحْدَاثِهَا وَأَعْطَاهُمْ مَالًا، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حِمْصَ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الدِّمَشْقِيِّينَ وَوَاعَدَهُمْ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ إِذَا مَاتَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَأَقَامَ بِحِمْصَ يَنْتَظَرُ مَوْتَهُ لِيَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ فَيَمْلِكَهَا، فَعُوفِيَ وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ عَلَى جِهَتِهِ.
فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى مَاتَ ابْنُ شِيرِكُوهُ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ وَأَكْثَرَ مِنْهَا، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فَذَكَرُوا، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ، أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَضَعَ عَلَيْهِ إِنْسَانًا يُقَالُ لَهُ النَّاصِحُ بْنُ الْعَمِيدِ، وَهُوَ مِنْ دِمَشْقَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَنَادَمَهُ وَسَقَاهُ سُمًّا.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ لَمْ يَرَوُا النَّاصِحَ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَوَّى الظَّنَّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَعْطَى أَقْطَاعَهُ لِوَلَدِهِ شِيرِكُوهُ، وَعُمُرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَخَلَّفَ نَاصِرَ الدِّينِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخَيْلِ وَالْآلَاتِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَحَضَرَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي حِمْصَ وَاسْتَعْرَضَ تَرِكَتَهُ، وَأَخَذَ أَكْثَرَهَا وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا مَا لَا خَيْرَ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute