الْفِرِنْجِ وَأَخْذِ عَكَّا وَغَيْرِهَا، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ صُورَ بِيَدِ الْفِرِنْجِ وَعَسْقَلَانَ وَغَيْرَهَا، وَحَكَى الْأَمْرَ لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْحَرَكَةُ لِعَدَمِ الرِّيحِ، فَرَدَّ الرَّسُولَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ لِيَدْخُلَ الْبَلَدَ بِمَا مَعَهُ مِنْ مَتَاعٍ وَمَالٍ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.
فَرَدَّدَهُ مِرَارًا كُلَّ مَرَّةٍ يَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ يَطْلُبْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ انْتِظَارًا لِهُبُوبِ الْهَوَاءِ لِيَسِيرَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي مُرَاجَعَاتِهِ إِذْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَسَارَ نَحْوَ صُورَ، وَسَيَّرَ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ الشَّوَانِيَ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ.
فَأَتَى صُورَ وَقَدِ اجْتَمَعَ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِأَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ كُلَّمَا فَتَحَ مَدِينَةَ عَكَّا وَبَيْرُوتَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَعْطَى أَهْلَهَا الْأَمَانَ، فَسَارُوا كُلُّهُمْ إِلَى صُورَ، وَكَثُرَ الْجَمْعُ بِهَا إِلَّا أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَأْسٌ يَجْمَعُهُمْ، وَلَا مُقَدَّمٌ يُقَاتِلُ بِهِمْ، وَلَيْسُوا أَهْلَ الْحَرْبِ، وَهُمْ عَازِمُونَ عَلَى مُرَاسَلَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَطَلَبِ الْأَمَانِ وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ.
فَأَتَاهُمُ الْمَرْكِيسُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْعَزْمِ، فَرَدَّهُمْ عَنْهُ وَقَوَّى نُفُوسَهُمْ وَضَمِنَ لَهُمْ حِفْظَ الْمَدِينَةِ وَبَذْلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَكُونَ الْمَدِينَةُ وَأَعْمَالُهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَخَذَ أَيْمَانَهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَدَبَّرَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ، وَلَهُ شَجَاعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِينِهَا فَجَدَّدَ حَفْرَ خَنَادِقِهَا وَعَمِلَ أَسْوَارَهَا، وَزَادَ فِي حَصَانَتِهَا وَاتَّفَقَ مَنْ بِهَا عَلَى الْحِفْظِ وَالْقِتَالِ دُونَهَا.
ذِكْرُ فَتْحِ عَسْقَلَانَ وَمَا يُجَاوِرُهَا
لَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ بَيْرُوتَ وَجُبَيْلَ وَغَيْرَهُمَا، كَانَ أَمْرُ عَسْقَلَانَ وَالْقُدْسِ أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِمَا لِأَسْبَابٍ مِنْهَا أَنَّهُمَا عَلَى طَرِيقِ مِصْرَ، يَقْطَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الشَّامِ.
وَكَانَ يَخْتَارُ أَنْ تَتَّصِلَ الْوِلَايَاتُ لَهُ لِيَسْهُلَ خُرُوجُ الْعَسْكَرِ مِنْهَا وَدُخُولُهُمْ إِلَيْهَا، وَلِمَا فِي فَتْحِ الْقُدْسِ مِنَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالصِّيتِ الْعَظِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ.
فَسَارَ عَنْ بَيْرُوتَ نَحْوَ عَسْقَلَانَ، وَاجْتَمَعَ بِأَخِيهِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِ مِصْرَ، وَنَازَلُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ أَحْضَرَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ وَمُقَدَّمَ الدَّاوِيَّةِ إِلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ سَلَّمْتُمَا الْبِلَادَ إِلَيَّ فَلَكُمَا الْأَمَانُ، فَأَرْسَلَا إِلَى مَنْ بِعَسْقَلَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ يَأْمُرَانِهِمْ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا أَمْرَهُمَا وَرَدُّوا عَلَيْهِمَا أَقْبَحَ رَدٍّ، وَجَبَّهُوهُمَا بِمَا يَسُوءُهُمَا.
فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ جَدَّ فِي قِتَالِ الْمَدِينَةِ وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَيْهَا، وَزَحَفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute