عَسْقَلَانَ وَغَيْرِهَا.
فَاجْتَمَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، كُلُّهُمْ يَرَى الْمَوْتَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَيَأْخُذُوهُ مِنْهُمْ، وَيَرَى أَنَّ بَذْلَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَوْلَادِهِ بَعْضُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهِ، وَحَصَّنُوهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِمَا وَجَدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَصَعِدُوا عَلَى سُورِهِ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، مُجْمِعِينَ عَلَى حِفْظِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، مُظْهِرِينَ الْعَزْمَ عَلَى الْمُنَاضَلَةِ دُونَهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ عَلَى أَسْوَارِهِ لِيَمْنَعُوا مَنْ يُرِيدُ الدُّنُوَّ مِنْهُ وَالنُّزُولَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا قَرُبَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهُ تَقَدَّمَ أَمِيرٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، غَيْرَ مُحْتَاطٍ وَلَا حَذِرٍ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الْقُدْسِ لِيَكُونُوا يَزَكًا، فَقَاتَلُوهُ وَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِمَّنْ مَعَهُ، فَأَهَمَّ الْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُ، وَفُجِعُوا بِفَقْدِهِ، وَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْقُدْسِ مُنْتَصَفَ رَجَبٍ.
فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَيْهِ رَأَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُورِهِ مِنَ الرِّجَالِ مَا هَالَهُمْ، وَسَمِعُوا لِأَهْلِهِ مِنَ الْجَلَبَةِ، وَالضَّجِيجِ مِنْ وَسَطِ الْمَدِينَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى كَثْرَةِ الْجَمْعِ، وَبَقِيَ صَلَاحُ الدِّينِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَطُوفُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ لِيَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ يُقَاتِلُهُ، لِأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحَصَانَةِ وَالِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ مَوْضِعَ قِتَالٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، نَحْوَ بَابِ عَمُودَا، وَكَنِيسَةِ صَهْيُونَ.
فَانْتَقَلَ إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَنَزَلَهَا، وَنَصَبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْمَجَانِيقَ، فَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ نَصْبِهَا، وَرَمَى بِهَا.
وَنَصَبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سُورِ الْبَلَدِ مَجَانِيقَ وَرَمَوْا بِهَا، وَقُوتِلُوا أَشَدَّ قِتَالٍ رَآهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَرَى ذَلِكَ دِينًا، وَحَتْمًا وَاجِبًا، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَاعِثٍ سُلْطَانِيٍّ بَلْ كَانُوا يَمْنَعُونَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ وَيَزْجُرُونَ وَلَا يَنْزَجِرُونَ.
وَكَانَ خَيَّالَةُ الْفِرِنْجِ كُلَّ يَوْمٍ يَخْرُجُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ يُقَاتِلُونَ وَيُبَارِزُونَ، فَيُقْتَلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ عِيسَى بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَكَانَ أَبُوهُ صَاحِبَ قَلْعَةِ جَعْبَرٍ، وَكَانَ يَصْطَلِي الْقِتَالَ بِنَفْسِهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَقُتِلَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ مَصْرَعَهُ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَزَالُوا الْفِرِنْجَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ فَأَدْخَلُوهُمْ بَلَدَهُمْ، وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَجَازُوهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute