للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْتَصَقُوا إِلَى السُّورِ فَنَقَبُوهُ، وَزَحَفَ الرُّمَاةُ يَحْمُونَهُمْ، وَالْمَجَانِيقُ تُوَالِي الرَّمْيَ لِتَكْشِفَ الْفِرِنْجَ عَنِ الْأَسْوَارِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ النَّقْبِ، فَلَمَّا نَقَبُوهُ حَشَوْهُ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.

فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ شِدَّةَ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَحَكُّمَ الْمَجَانِيقِ بِالرَّمْيِ الْمُتَدَارِكِ، وَتَمَكُّنَ النَّقَّابِينَ مِنَ النَّقْبِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، اجْتَمَعَ مُقَدَّمُوهُمْ يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَأْتُونَ وَيَذَرُونَ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى طَلَبِ الْأَمَانِ، وَتَسْلِيمِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ.

فَأَرْسَلُوا جَمَاعَةً مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ، فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ امْتَنَعَ مِنْ إِجَابَتِهِمْ، وَقَالَ: لَا أَفْعَلُ بِكُمْ إِلَّا كَمَا فَعَلْتُمْ بِأَهْلِهِ حِينَ مَلَكْتُمُوهُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَجَزَاءُ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا.

فَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ خَائِبِينَ مَحْرُومِينَ، أَرْسَلَ بَالْيَانُ بْنُ بِيرْزَانَ وَطَلَبَ لِنَفْسِهِ لِيَحْضُرَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَتَحْرِيرِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ، وَرَغِبَ فِي الْأَمَانِ، وَسَأَلَ فِيهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَعْطَفَهُ فَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْحَمَهُ فَلَمْ يَرْحَمْهُ.

فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا السُّلْطَانُ اعْلَمْ أَنَّنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْقِتَالِ رَجَاءَ الْأَمَانِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّكَ تُجِيبُهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَجَبْتَ غَيْرَهُمْ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ الْمَوْتَ وَيَرْغَبُونَ فِي الْحَيَاةِ.

فَإِذَا رَأَيْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَنُحَرِّقُ أَمْوَالَنَا وَأَمْتِعَتَنَا، وَلَا نَتْرُكُكُمْ تَغْنَمُونَ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا تَسْبُونَ وَتَأْسِرُونَ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً.

وَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ ذَلِكَ أَخْرَبْنَا الصَّخْرَةَ وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ نَقْتُلُ مَنْ عِنْدَنَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ خَمْسَةُ آلَافِ أَسِيرٍ، وَلَا نَتْرُكُ لَنَا دَابَّةً وَلَا حَيَوَانًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكُمْ كُلُّنَا فَقَاتَلْنَاكُمْ قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ [أَنْ] يَحْمِيَ دَمَهُ وَنَفْسَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَقْتُلَ أَمْثَالَهُ، وَنَمُوتُ أَعِزَّاءَ أَوْ نَظْفَرُ كِرَامًا.

فَاسْتَشَارَ صَلَاحُ الدِّينِ أَصْحَابَهُ. فَأَجْمَعُوا عَلَى إِجَابَتِهِمْ إِلَى الْأَمَانِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجُوا وَيَحْمِلُوا عَلَى رُكُوبِ مَا لَا يُدْرَى عَاقِبَةُ الْأَمْرِ فِيهِ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ تَنْجَلِي، وَنَحْسَبُ أَنَّهُمْ أُسَارَى بِأَيْدِينَا، فَنَبِيعُهُمْ نُفُوسَهُمْ بِمَا يَسْتَقِرُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَأَجَابَ صَلَاحُ الدِّينِ حِينَئِذٍ إِلَى بَذْلِ الْأَمَانِ لِلْفِرِنْجِ.

فَاسْتَقَرَّ أَنْ يَزِنَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَيَزِنَ الطِّفْلُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْبَنَاتِ دِينَارَيْنِ، وَتَزِنَ الْمَرْأَةُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ نَجَا، وَمَنِ انْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ يَوْمًا عَنْهُ وَلَمْ يُؤَدِّ مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>