للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَتَتْهُ أَيْضًا امْرَأَةٌ لِلْبِرِنْسِ أَرْنَاطَ صَاحِبِ الْكَرَكِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ بِيَدِهِ يَوْمَ الْمَصَافِّ بِحِطِّينَ، فَشَفَعَتْ فِي وَلَدٍ لَهَا مَأْسُورٍ، فَقَالَ لَهَا صَلَاحُ الدِّينِ: إِنْ سَلَّمْتِ الْكَرَكَ أَطْلَقْتُهُ، فَسَارَتْ إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا الْفِرِنْجُ الَّذِي فِيهِ، وَلَمْ يُسَلِّمُوهُ فَلَمْ يُطْلَقْ وَلَدُهَا، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَ مَا لَهَا وَمَنْ تَبِعَهَا.

وَخَرَجَ الْبَطْرَكُ الْكَبِيرُ الَّذِي لِلْفِرِنْجِ، وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْبِيَعِ مِنْهَا: الصَّخْرَةُ وَالْأَقْصَى، وَقُمَامَةُ وَغَيْرُهَا، مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَالِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ، فَقِيلَ لَهُ لِيَأْخُذَ مَا مَعَهُ يُقَوِّي بِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ غَيْرَ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَسَيَّرَ الْجَمِيعَ وَمَعَهُمْ مَنْ يَحْمِيهِمْ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ.

وَكَانَ عَلَى رَأْسِ قُبَّةِ الصَّخْرَةِ صَلِيبٌ كَبِيرٌ مُذَهَّبٌ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَسَلَّقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَعْلَى الْقُبَّةِ لِيَقْلَعُوا الصَّلِيبَ، فَلَمَّا فَعَلُوا وَسَقَطَ صَاحَ النَّاسُ كُلُّهُمْ صَوْتًا وَاحِدًا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ: أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَكَبَّرُوا فَرَحًا، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَصَاحُوا تَفَجُّعًا وَتَوَجُّعًا، فَسَمِعَ النَّاسُ ضَجَّةً كَادَتِ الْأَرْضُ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ لِعِظَمِهَا وَشِدَّتِهَا.

فَلَمَّا مُلِكَ الْبَلَدُ وَفَارَقَهُ الْكُفَّارُ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِعَادَةِ الْأَبْنِيَةِ إِلَى حَالِهَا الْقَدِيمِ، فَإِنَّ الدَّاوِيَّةَ بَنَوْا غَرْبِيَّ الْأَقْصَى أَبْنِيَةً لِيَسْكُنُوهَا، وَعَمِلُوا فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ هُرْيٍ وَمُسْتَرَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَدْخَلُوا بَعْضَ الْأَقْصَى فِي أَبْنِيَتِهِمْ فَأُعِيدَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ وَالصَّخْرَةِ مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَنْجَاسِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَجْمَعَ.

وَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى، رَابِعَ شَعْبَانَ، صَلَّى الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَمَعَهُمْ صَلَاحُ الدِّينِ، وَصَلَّى فِي قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وَكَانَ الْخَطِيبُ وَالْإِمَامُ مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ، قَاضِيَ دِمَشْقَ، ثُمَّ رَتَّبَ فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ خَطِيبًا وَإِمَامًا بِرَسْمِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.

وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ مِنْبَرٌ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ نُورَ الدِّينِ مَحْمُودًا كَانَ قَدْ عَمِلَ بِحَلَبَ مِنْبَرًا أَمَرَ الصُّنَّاعَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَحْسِينِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَقَالَ: هَذَا قَدْ عَمِلْنَاهُ لِيُنْصَبَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَعَمِلَهُ النَّجَّارُونَ فِي عِدَّةِ سِنِينَ لَمْ يُعْمَلْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَحُمِلَ مِنْ حَلَبَ وَنُصِبَ بِالْقُدْسِ، وَكَانَ بَيْنَ عَمَلِ الْمِنْبَرِ وَحَمْلِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ نُورِ الدِّينِ، وَحُسْنِ مَقَاصِدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>