وَلَمَّا فَرَغَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ تَقَدَّمَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاسْتِنْفَادِ الْوُسْعِ فِي تَحْسِينِهِ وَتَرْصِيفِهِ، وَتَدْقِيقِ نُقُوشِهِ، فَأَحْضَرُوا مِنَ الرُّخَامِ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، وَمِنَ الْفَصِّ الْمُذَهَّبِ الْقُسْطَنْطِينِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، قَدِ ادُّخِرَ عَلَى طُولِ السِّنِينَ.
فَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهِ، وَمَحَوْا مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ مِنَ الصُّوَرِ، وَكَانَ الْفِرِنْجُ فَرَشُوا الرُّخَامَ فَوْقَ الصَّخْرَةِ وَغَيَّبُوهَا، فَأَمَرَ بِكَشْفِهَا.
وَكَانَ سَبَبُ تَغْطِيَتِهَا بِالْفُرُشِ أَنَّ الْقِسِّيسِينَ بَاعُوا كَثِيرًا مِنْهَا لِلْفِرِنْجِ الْوَارِدِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ دَاخِلِ الْبَحْرِ لِلزِّيَارَةِ، فَكَانُوا يَشْتَرُونَهُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ بِلَادَهُ بِالْيَسِيرِ مِنْهَا بَنَى لَهُ الْكَنِيسَةَ، وَيُجْعَلُ فِي مَذْبَحِهَا، فَخَافَ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ أَنْ تَفْنَى، فَأَمَرَ بِهَا فَفُرِشَ فَوْقَهَا حِفْظًا لَهَا.
فَلَمَّا كُشِفَتْ نَقَلَ إِلَيْهَا صَلَاحُ الدِّينِ الْمَصَاحِفَ الْحَسَنَةَ، وَالرَّبَعَاتِ الْجَيِّدَةَ، وَرَتَّبَ الْقُرَّاءَ، وَأَدَرَّ عَلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ الْكَثِيرَةَ، فَعَادَ الْإِسْلَامُ هُنَاكَ غَضًّا طَرِيًّا، وَهَذِهِ الْمَكْرُمَةُ مِنْ فَتْحِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ لَمْ يَفْعَلْهَا بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، غَيْرُ صَلَاحِ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَفَاهُ ذَلِكَ فَخْرًا وَشَرَفًا.
وَأَمَّا الْفِرِنْجُ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا، وَشَرَعُوا فِي بَيْعِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ حَمْلُهُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَذَخَائِرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَا يُطِيقُونَ حَمْلَهُ، وَبَاعُوا ذَلِكَ بِأَرْخَصِ الثَّمَنِ، فَاشْتَرَاهُ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَاشْتَرَاهُ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْقُدْسِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْمُقَامِ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَاشْتَرَوْا حِينَئِذٍ مِنْ أَمْوَالِ الْفِرِنْجِ.
وَتَرَكَ الْفِرِنْجُ أَيْضًا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ بَيْعُهَا مِنَ الْأَسِرَّةِ وَالصَّنَادِيقِ وَالْبَتِّيَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَرَكُوا أَيْضًا مِنَ الرُّخَامِ الَّذِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ، مِنَ الْأَسَاطِينِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْفَصِّ وَغَيْرِهِ، شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ سَارُوا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute