ذِكْرُ رَحِيلِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى صُورَ وَمُحَاصَرَتِهَا.
لَمَّا فَتَحَ صَلَاحُ الدِّينِ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ أَقَامَ بِظَاهِرِهِ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ يُرَتِّبُ أُمُورَ الْبَلَدِ وَأَحْوَالَهُ، وَتَقَدَّمَ بِعَمَلِ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ، فَجَعَلَ دَارَ الِاسْبِتَارِ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُسْنِ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْبَلَدِ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ صُورَ، وَكَانَتْ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا مِنَ الْفِرِنْجِ عَالَمٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ صَارَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبَهَا وَالْحَاكِمَ فِيهَا، وَقَدْ سَاسَهُمْ أَحْسَنَ سِيَاسَةٍ، وَبَالَغَ فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ.
وَوَصَلَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عَكَّا، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، فَلَمَّا سَمِعَ الْمَرْكِيسُ بِوُصُولِهِ إِلَيْهَا جَدَّ فِي عَمَلِ سُورِ صُورَ وَخَنَادِقِهَا وَتَعْمِيقِهَا، وَوَصَلَهَا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَصَارَتِ الْمَدِينَةُ كَالْجَزِيرَةِ فِي وَسَطِ الْمَاءِ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَلَا الدُّنُوُّ مِنْهَا.
ثُمَّ رَحَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ عَكَّا، فَوَصَلَ إِلَى صُورَ تَاسِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَنَزَلَ عَلَى نَهْرٍ قَرِيبٍ [مِنَ] الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَرَاهُ، حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ وَتَلَاحَقُوا، وَسَارَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ.
فَنَزَلَ عَلَى تَلٍّ يُقَارِبُ سُورَ الْبَلَدِ، بِحَيْثُ يَرَى الْقِتَالَ، وَقَسَّمَ الْقِتَالَ عَلَى الْعَسْكَرِ كُلُّ جَمْعٍ مِنْهُمْ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ يُقَاتِلُونَ فِيهِ، بِحَيْثُ يَتَّصِلُ الْقِتَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُقَاتِلُونَ فِيهِ قَرِيبُ الْمَسَافَةِ، يَكْفِيهِ الْجَمَاعَةُ الْيَسِيرَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لِحِفْظِهِ، وَعَلَيْهِ الْخَنَادِقُ الَّتِي قَدْ وَصَلَتْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، فَلَا يَكَادُ الطَّيْرُ يَطِيرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكَفِّ فِي الْبَحْرِ، وَالسَّاعِدَ مُتَّصِلٌ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاعِدِ، وَالْقِتَالُ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّاعِدِ، فَزَحَفَ الْمُسْلِمُونَ مَرَّةً بِالْمَجَانِيقِ، وَالْعَرَّادَاتِ، وَالْجُرُوخِ، وَالدَّبَّابَاتِ.
وَكَانَ أَهْلُ صَلَاحِ الدِّينِ يَتَنَاوَبُونَ الْقِتَالَ مِثْلَ: وَلَدِهِ الْأَفْضَلِ، وَوَلَدِهِ الظَّاهِرِ غَازِي، وَأَخِيهِ الْعَادِلِ بْنِ أَيُّوبَ، وَابْنِ أَخِيهِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ.
وَكَانَ لِلْفِرِنْجِ شَوَانٍ وَحَرَّاقَاتٌ يَرْكَبُونَ فِيهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَقِفُونَ مِنْ جَانِبَيِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ أَهْلَ الْبَلَدِ، فَيَرْمُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَانِبِهِمْ بِالْجُرُوخِ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَصْحَابَ الشَّوَانِي يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْ جَانِبَيْهِمْ، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ تَنْفُذُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ، فَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْقَتْلُ.
وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute