للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَشَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلُوا بِمَنْ عَلَى عَكَّا.

فَقَالَ: بَلْ نُقِيمُ إِلَى أَنْ يَقْرُبُوا مِنَّا، وَحِينَئِذٍ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَسْتَسْلِمَ مَنْ بِعَكَّا مِنْ عَسَاكِرِنَا لَكِنَّهُ سَيَّرَ بَعْضَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مِنْهَا عَسْكَرُ حَلَبَ وَجَبَلَةَ وَلَاذِقِيَّةَ وَشَيْزَرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِلَى أَعْمَالِ حَلَبَ لِيَكُونُوا فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ يَحْفَظُونَهَا مِنْ عَادِيَتِهِمْ.

وَكَانَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: ١٠] فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمْ.

وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ كَانَ لَهُ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ قَرْيَةٌ وَكَانَ أَخِي، رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَلَّاهَا، فَحَصَّلَ دَخْلَهَا مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَتِبْنٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي بَيْعِ الْغَلَّةِ، فَوَصَلَ كِتَابُهُ يَقُولُ: " لَا تَبِعِ الْحَبَّةَ الْفَرْدَ، وَاسْتَكْثِرْ لَنَا مِنَ التِّبْنِ ".

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَلَ كِتَابُهُ يَقُولُ: تَبِيعُ الطَّعَامَ فَمَا بِنَا حَاجَةٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ: إِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرَ قَدِمَ الْمَوْصِلَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَلَّةِ، ثُمَّ الْإِذْنِ فِيهَا بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَقَالَ: لَمَّا وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ أَيْقَنَّا أَنَّنَا لَيْسَ لَنَا بِالشَّامِ مُقَامٌ.

فَكَتَبْتُ بِالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَلَّةِ لِتَكُونَ ذَخِيرَةً لَنَا إِذَا جِئْنَا إِلَيْكُمْ، وَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَغْنَى عَنْهَا كَتَبْتُ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِثَمَنِهَا.

ذِكْرُ وَقْعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ عَلَى عَكَّا

وَفِيِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَتِ الْفِرِنْجُ فَارِسُهَا وَرَاجِلُهَا مِنْ وَرَاءِ خَنَادِقِهِمْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ كَثِيرٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ عَسْكَرِ مِصْرَ، وَمُقَدَّمُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ قَدْ رَكِبُوا وَاصْطَفُّوا لِلِقَاءِ الْفِرِنْجِ، فَالْتَقَوْا، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا.

فَانْحَازَ الْمِصْرِيُّونَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ الْفِرِنْجُ خِيَامَهُمْ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ فَعَطَفَ الْمِصْرِيُّونَ عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوهُمْ مِنْ وَسَطِ خِيَامِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ عَنْهَا.

وَتَوَجَّهَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ نَحْوَ خَنَادِقِ الْفِرِنْجِ، فَقَطَعُوا الْمَدَدَ عَنْ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا، وَكَانُوا مُتَّصِلِينَ، كَالنَّمْلِ، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ أَمْدَادُهُمْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، يَزِيدُ عَدَدُ الْقَتْلَى عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>