وَكَانَتْ عَسَاكِرُ الْمَوْصِلِ قَرِيبَةً مِنْ عَسْكَرِ مِصْرَ، وَكَانَ مُقَدَّمُهُمْ عَلَاءُ الدِّينِ خُرَّمْشَاهْ بْنُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَحَمَلُوا أَيْضًا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَبَالَغُوا فِي قِتَالِهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ نَيْلًا كَثِيرًا، هَذَا جَمِيعُهُ، وَلَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ أَحَدٌ مِنَ الْحَلْقَةِ الْخَاصِّ الَّتِي مَعَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، وَكَانَ بِهَا عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيٌّ، صَاحِبُ سِنْجَارَ وَعَسْكَرُ إِرْبِلَ وَغَيْرُهُمْ.
وَلَمَّا جَرَى عَلَى الْفِرِنْجِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ خَمَدَتْ جَمْرَتُهُمْ، وَلَانَتْ عَرِيكَتُهُمْ، وَأَشَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ بْمُبَاكَرَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَمُنَاجَزَتِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ وَصَلَهُ مِنَ الْغَدِ كِتَابٌ مِنْ حَلَبَ يُخْبَرُ فِيهِ بِمَوْتِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَمَا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ مِنِ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ.
وَاشْتَغَلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الْبُشْرَى وَالْفَرَحِ بِهَا عَنْ قِتَالِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا بَلَغَهُمْ هَذَا الْخَبَرُ ازْدَادُوا وَهْنًا عَلَى وَهْنِهِمْ، وَخَوْفًا عَلَى خَوْفِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَتَتِ الْفِرِنْجَ أَمْدَادٌ فِي الْبَحْرِ مَعَ كَنْدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُنُودِ الْبَحْرِيَّةِ يُقَالُ لَهُ الْكَنْدُ هَرِي ابْنُ أَخِي مَلِكِ إِفْرَنْسِيسَ لِأَبِيهِ، وَابْنُ أَخِي مَلِكِ إِنْكِلْتَارَ لِأُمِّهِ.
وَوَصَلَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ يَفُوقُ الْإِحْصَاءَ، فَوَصَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ فَعَادَتْ نُفُوسُهُمْ فَقَوِيَتْ وَاطْمَأَنَّتْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْأَمْدَادَ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِمْ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَتَمَاسَكُوا وَحَفِظُوا مَكَانَهُمْ.
ثُمَّ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ إِلَى لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ، فَانْتَقَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْخَرُّوبَةِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، لِيَسَعَ الْمَجَالُ، وَكَانَتِ الْمَنْزَلَةُ قَدْ أَنْتَنَتْ بِرِيحِ الْقَتْلَى.
ثُمَّ إِنَّ الْكَنْدَ هَرِي نَصَبَ مَنْجَنِيقًا وَدَبَّابَاتٍ وَعَرَّادَاتٍ، فَخَرَجَ مَنْ بِعَكَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذُوهَا، وَقَتَلُوا عِنْدَهَا كَثِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ إِنَّ الْكَنْدَ هَرِي بَعْدَ أَخْذِ مَجَانِيقِهِ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ مَنْجَنِيقًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِعَكَّا كَانُوا يَمْنَعُونَ مِنْ عَمَلِ سَتَائِرَ يَسْتَتِرُ بِهَا مَنْ يَرْمِي مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، فَعَمِلَ تَلًّا مِنْ تُرَابٍ بِالْبُعْدِ مِنَ الْبَلَدِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ كَانُوا يَنْقُلُونَ التَّلَّ إِلَى الْبَلَدِ بِالتَّدْرِيجِ، وَيَسْتَتِرُونَ بِهِ، وَيُقَرِّبُونَهُ إِلَى الْبَلَدِ، فَلَمَّا صَارَ مِنَ الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَصِلُ مَنْ عِنْدَهُ حَجْرُ مَنْجَنِيقٍ، نَصَبُوا وَرَاءَهُ مَنْجَنِيقَيْنِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute