ذِكْرُ مُلْكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ وَأَزَالُوا مُلْكَ الرُّومِ عَنْهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ الرُّومِ بِهَا تَزَوَّجَ أُخْتَ مَلِكِ إِفْرِنْسِيسَ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ فَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا ذَكَرًا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَى الْمُلْكِ أَخٌ لَهُ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ. وَمَلَكَ الْبَلَدَ مِنْهُ، وَسَمَلَ عَيْنَيْهِ وَسَجَنَهُ، فَهَرَبَ وَلَدُهُ وَمَضَى إِلَى خَالِهِ مُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى عَمِّهِ. فَاتَّفَقَ ذَلِكَ وَقَدِ اجْتَمَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ لِيَخْرُجُوا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ لِاسْتِنْقَاذِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوا وَلَدَ الْمَلِكَ مَعَهُمْ، وَجَعَلُوا طَرِيقَهُمْ عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ قَصْدًا لِإِصْلَاحِ الْحَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَمَعٌ فِي سِوَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلُوا خَرَجَ عَمُّهُ فِي عَسَاكِرِ الرُّومِ مُحَارِبًا لَهُمْ، فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَانْهَزَمَتِ الرُّومُ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ فَدَخَلَهُ الْفِرِنْجُ مَعَهُمْ، فَهَرَبَ مِلْكُ الرُّومِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَقِيلَ إِنَّ مِلْكَ الرُّومِ لَمْ يُقَاتِلِ الْفِرِنْجَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ وَإِنَّمَا حَصَرُوهُ فِيهَا.
وَكَانَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مِنَ الرُّومِ مَنْ يُرِيدُ الصَّبِيَّ، فَأَلْقَوُا النَّارَ فِي الْبَلَدِ، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَفَتَحُوا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَهَا الْفِرِنْجُ، وَخَرَجَ مَلِكُهَا هَارِبًا، وَجَعَلَ الْفِرِنْجُ الْمُلْكَ فِي ذَلِكَ الصَّبِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ - وَأَخْرَجُوا أَبَاهُ مِنَ السِّجْنِ - إِنَّمَا الْفِرِنْجُ هُمُ الْحُكَّامُ فِي الْبَلَدِ، فَثَقَّلُوا الْوَطْأَةَ عَلَى أَهْلِهِ، وَطَلَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَجَزُوا عَنْهَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَ الْبَيْعِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ وَنُقْرَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى مَا عَلَى الصُّلْبَانِ وَمَا هُوَ عَلَى صُورَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْحَوَارِيِّينَ، وَمَا عَلَى الْأَنَاجِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الرُّومِ وَحَمَلُوا مِنْهُ خَطْبًا عَظِيمًا، فَعَمَدُوا إِلَى ذَلِكَ الصَّبِيِّ الْمَلِكِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفِرِنْجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ، فَأَقَامَ الْفِرِنْجُ بِظَاهِرِهِ مُحَاصِرِينَ لِلرُّومِ، وَقَاتَلُوهُمْ وَلَازَمُوا قِتَالَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَانَ الرُّومُ قَدْ ضَعُفُوا ضَعْفًا كَثِيرًا، فَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ رُكْنِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنِ قِلْج أَرْسِلَانَ، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُقِيمِينَ، يُقَارِبُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَلِعِظَمِ الْبَلَدِ لَا يَظْهَرُ أَمْرُهُمْ، فَتَوَاضَعُوا هُمْ وَالْفِرِنْجُ الَّذِينَ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَوَثَبُوا فِيهِ وَأَلْقَوُا النَّارَ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاحْتَرَقَ نَحْوُ رُبُعِ الْبَلَدِ، وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ فَدَخَلُوهَا وَوَضَعُوا السَّيْفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute