مَنْعِهَا عَنْ أَقَاصِي دِيَارِ مِصْرَ وَأَدَانِيهَا.
فَلَمَّا نَزَلَ الْفِرِنْجُ عَلَى بَرِّ الْجِيزَةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دِمْيَاطَ النَّيْلُ، بَنَوْا عَلَيْهِ سُورًا، وَجَعَلُوا خَنْدَقًا يَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ يُرِيدُهُمْ، وَشَرَعُوا فِي قِتَالِ مَنْ بِدِمْيَاطَ، وَعَمِلُوا آلَاتٍ، وَمَرَمَّاتٍ، وَأَبْرَاجًا يَزْحَفُونَ بِهَا فِي الْمَرَاكِبِ إِلَى هَذَا الْبُرْجِ لِيُقَاتِلُوهُ وَيَمْلِكُوهُ.
وَكَانَ الْبُرْجُ مَشْحُونًا بِالرِّجَالِ، وَقَدْ نَزَلَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ ابْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَهُوَ صَاحِبُ دِيَارِ مِصْرَ، بِمَنْزِلَةٍ تُعْرَفُ بِالْعَادِلِيَّةِ، بِالْقُرْبِ مِنْ دِمْيَاطَ، وَالْعَسَاكِرُ مُتَّصِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى دِمْيَاطَ، لِيَمْنَعَ الْعَدُوَّ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى أَرْضِهَا.
وَأَدَامَ الْفِرِنْجُ قِتَالَ الْبُرْجِ وَتَابَعُوهُ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَكُسِّرَتْ مَرَمَّاتُهُمْ وَآلَاتُهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مُلَازِمُونَ لِقِتَالِهِ، فَبَقُوا كَذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِهِ ; فَلَمَّا مَلَكُوهُ قَطَعُوا السَّلَاسِلَ لِتَدَخُّلَ مَرَاكِبُهُمْ مِنَ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فِي النَّيْلِ وَيَتَحَكَّمُوا فِي الْبَرِّ، فَنَصَبَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ عِوَضَ السَّلَاسِلِ جِسْرًا عَظِيمًا امْتَنَعُوا بِهِ مِنْ سُلُوكِ النِّيلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهِ أَيْضًا قِتَالًا شَدِيدًا، كَثِيرًا مُتَتَابِعًا حَتَّى قَطَعُوهُ، فَلَمَّا قُطِعَ أَخَذَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ عِدَّةَ مَرَاكِبَ كِبَارٍ وَمَلَأَهَا وَخَرَقَهَا وَغَرَّقَهَا فِي النَّيْلِ، فَمَنَعَتِ الْمَرَاكِبَ مِنْ سُلُوكِهِ.
فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ قَصَدُوا خَلِيجًا هُنَاكَ يُعْرَفُ بَالْأَرْزَقِ، كَانَ النِّيلُ يَجْرِي فِيهِ قَدِيمًا، فَحَفَرُوا ذَلِكَ الْخَلِيجَ وَعَمَّقُوهُ فَوْقَ الْمَرَاكِبِ الَّتِي جُعِلَتْ فِي النِّيلِ، وَأَجْرَوُا الْمَاءَ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَأَصْعَدُوا مَرَاكِبَهُمْ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ بُورَةُ، عَلَى أَرْضِ الْجِيزَةِ أَيْضًا، مُقَابِلَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ لِيُقَاتِلُوهُ مِنْ هُنَاكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَيْهِ طَرِيقٌ يُقَاتِلُونَهُ فِيهَا، كَانَتْ دِمْيَاطُ تَحْجِزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا صَارُوا فِي بُورَةَ حَاذُوهُ فَقَاتَلُوهُ فِي الْمَاءِ، وَزَحَفُوا غَيْرَ مَرَّةً، فَلَمْ يَظْفَرُوا بِطَائِلٍ.
وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى أَهْلِ دِمْيَاطَ شَيْءٌ ; لِأَنَّ الْمِيرَةَ وَالْأَمْدَادَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمْ، وَالنِّيلَ يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ، فَهُمْ مُمْتَنِعُونَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَذًى، وَأَبْوَابُهَا مُفَتَّحَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَصْرِ ضِيقٌ وَلَا ضَرَرٌ.
فَاتَّفَقَ، كَمَا يُرِيدُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَضَعُفَتْ نُفُوسُ النَّاسِ لِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute