الْمَشْرِقِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى نَوَاحِي الْعِرَاقِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; وَأَقْبَلَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْمَغْرِبِ فَمَلَكُوا مِثْلَ دِمْيَاطَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مَعَ عَدَمِ الْحُصُونِ الْمَانِعَةِ بِهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَشْرَفَ سَائِرُ الْبِلَادِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ عَلَى أَنْ تُمْلَكَ، وَخَافَهُمُ النَّاسُ كَافَّةً، وَصَارُوا يَتَوَقَّعُونَ الْبَلَاءَ صَبَاحًا وَمَسَاءً.
وَأَرَادَ أَهْلُ مِصْرَ الْجَلَاءَ عَنْ بِلَادِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْعَدُوِّ، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: ٣] ، وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَوْ مَكَّنَهُمُ الْكَامِلُ مِنْ ذَلِكَ لَتَرَكُوا الْبِلَادَ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنْهُ فَثَبَتُوا.
وَتَابَعَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ كُتُبَهُ إِلَى أَخَوَيْهِ الْمُعَظِّمِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ وَغَيْرِهِمَا، يَسْتَنْجِدُهُمَا، وَيَحُثُّهُمَا عَلَى الْحُضُورِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُرْسِلَانِ الْعَسَاكِرَ إِلَيْهِ، فَسَارَ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى الْأَشْرَفِ بِنَفْسِهِ بِحَرَّانَ، فَرَآهُ مَشْغُولًا عَنْ إِنْجَادِهِمْ بِمَا دَهَمَهُ مِنِ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، وَزَوَالِ الطَّاعَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يُطِيعُهُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عِنْدَ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ، صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَلْيُطْلَبْ مِنْ هُنَاكَ ; فَعَذَرَهُ، وَعَادَ عَنْهُ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ الْفِرِنْجِ.
فَأَمَّا الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فَزَالَ الْخُلْفُ مِنْ بِلَادِهِ، وَرَجَعَ الْمُلُوكُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَالْمَلِكُ الْكَامِلُ مُقَابِلُ الْفِرِنْجِ.
فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ عَلِمَ بِزَوَالِ مَانِعِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ عَنْ إِنْجَادِهِ، فَأَرْسَلَ يَسْتَنْجِدُهُ وَأَخَاهُ، صَاحِبَ دِمَشْقَ، فَسَارَ صَاحِبُ دِمَشْقَ الْمُعَظَّمُ إِلَى الْأَشْرَفِ يَحُثُّهُ عَلَى الْمَسِيرِ، فَفَعَلَ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَيَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ بِاللَّحَاقِ بِهِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِهَا يَنْتَظِرُهُمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ وَخَوَاصِّهِ بِإِنْفَاذِ الْعَسَاكِرِ وَالْعَوْدِ إِلَى بِلَادِهِ خَوْفًا مِنِ اخْتِلَافٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمْ، وَقَالَ قَدْ خَرَجْتُ لِلْجِهَادِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِتْمَامِ ذَلِكَ الْعَزْمِ، فَسَارَ إِلَى مِصْرَ.
وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ سَارُوا عَنْ دِمْيَاطَ فِي الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، وَقَصَدُوا الْمَلِكَ الْكَامِلَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute