للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَسْلُكُونَ مِنْهَا غَيْرَ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهَا ضِيقٌ، فَنَصَبَ الْكَامِلُ حِينَئِذٍ الْجُسُورَ عَلَى النِّيلِ، عِنْدَ أَشْمُومَ، وَعَبَرَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَيْهَا، فَمَلَكَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْفِرِنْجُ إِنْ أَرَادُوا الْعَوْدَ إِلَى دِمْيَاطَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ خَلَاصٌ.

وَاتَّفَقَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مَرْكَبٌ كَبِيرٌ لِلْفِرِنْجِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرَاكِبِ يُسَمَّى مَرَمَّةَ، وَحَوْلَهُ عِدَّةُ حَرَّاقَاتٍ تَحْمِيهِ، وَالْجَمِيعُ مَمْلُوءٌ مِنِ الْمِيرَةِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا شَوَانِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَظَفِرُوا بِالْمَرَمَّةِ وَبِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَرَّاقَاتِ، أَخَذُوهَا، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا الصَّوَابَ بِمُفَارَقَةِ دِمْيَاطَ فِي أَرْضٍ يَجْهَلُونَهَا.

هَذَا وَعَسَاكِرُ الْمُسْلِمِينَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ يَرْمُونَهُمْ بِالنُّشَّابِ، وَيَحْمِلُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفِرِنْجِ أَحْرَقُوا خِيَامَهُمْ، وَمَجَانِيقَهُمْ، وَأَثْقَالَهُمْ، وَأَرَادُوا الزَّحْفَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتَلَتَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى دِمْيَاطَ، فَرَأَوْا مَا أَمَّلُوهُ بَعِيدًا، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، لِكَثْرَةِ الْوَحْلِ وَالْمِيَاهِ حَوْلَهُمْ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَقْدِرُونَ عَلَى سُلُوكِهِ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلِمُونَ.

فَلَمَّا تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ قَدْ أُحِيطَ بِهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ، وَأَنْ مِيرَتَهُمْ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ وُصُولُهَا، وَأَنَّ الْمَنَايَا قَدْ كَشَّرَتْ لَهُمْ عَنْ أَنْيَابِهَا، ذَلَّتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَكَسَّرَتْ صُلْبَانُهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ شَيْطَانُهُمْ، فَرَاسَلُوا الْمَلِكَ الْكَامِلَ وَالْأَشْرَفَ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ لِيُسَلِّمُوا دِمْيَاطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَبَيْنَمَا الْمُرَاسَلَاتُ مُتَرَدِّدَةٌ إِذْ أَقْبَلَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، لَهُمْ رَهْجٌ شَدِيدٌ، وَجَلَبَةٌ عَظِيمَةٌ، مِنْ جِهَةِ دِمْيَاطَ، فَظَنَّهُ الْمُسْلِمُونَ نَجْدَةً أَتَتْ لِلْفِرِنْجِ، فَاسْتَشْعَرُوا، وَإِذَا هُوَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، صَاحِبُ دِمَشْقَ، قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى دِمْيَاطَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَاشْتَدَّتْ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَازْدَادَ الْفِرِنْجُ خِذْلَانًا وَوَهْنًا، وَتَمَّمُوا الصُّلْحَ عَلَى تَسْلِيمِ دِمْيَاطَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ وَالْأَيْمَانُ سَابِعَ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَانْتَقَلَ مُلُوكُ الْفِرِنْجِ، وَكُنُودُهُمْ، وَقَمَامِصَتُهُمْ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ وَالْأَشْرَفِ رَهَائِنَ عَلَى تَسْلِيمِ دِمْيَاطَ: مَلِكُ عَكَّا، وَنَائِبُ بَابَا صَاحِبِ رُومِيَّةَ، وَكُنْدُ رِيشَ، وَغَيْرُهُمْ، وَعِدَّتُهُمْ عِشْرُونَ مَلِكًا، وَرَاسَلُوا قُسُوسَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ إِلَى دِمْيَاطَ فِي التَّسْلِيمِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ مَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>