الْمَوْصِلِ، وَكَانَ لَا يَزَالُ مَرِيضًا بِعِدَّةِ أَمْرَاضٍ، فَرَتَّبَ بَدْرُ الدِّينِ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ أَخَاهُ نَاصِرَ الدِّينِ مَحْمُودًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاهِرِ وَلَدٌ غَيْرَهُ، وَحَلَّفَ لَهُ الْجُنْدَ وَرَكَّبَهُ، فَطَابَتْ نُفُوسُ النَّاسِ ; لِأَنَّ نُورَ الدِّينِ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ لِمَرَضِهِ، فَلَمَّا رَكَّبُوا هَذَا عَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ سُلْطَانًا مِنَ الْبَيْتِ الْأَتَابَكِيِّ، فَاسْتَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا، وَسَكَنَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّغَبِ بِسَبَبِهِ.
ذِكْرُ انْهِزَامِ بَدْرِ الدِّينِ مِنْ مُظَفَّرِ الدِّينِ
لَمَّا تُوُفِّيَ نُورُ الدِّينِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ نَاصِرُ الدِّينِ، تَجَدَّدَ لِمُظَفَّرِ الدِّينَ وَلِعِمَادِ الدِّينِ طَمَعٌ لِصِغَرِ سِنِ نَاصِرِ الدِّينِ، فَجَمَعَا الرِّجَالَ وَتَجَهَّزَا لِلْحَرَكَةِ، فَظَهَرَ ذَلِكَ، وَقَصَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ طَرَفَ وِلَايَةِ الْمَوْصِلِ بِالنَّهْبِ وَالْفَسَادِ.
وَكَانَ بَدْرُ الدِّينِ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ الْأَكْبَرَ فِي جَمْعٍ صَالِحٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بِحَلَبَ، نَجْدَةً لَهُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْفِرِنْجِ بِمِصْرَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ الَّتِي بِسَاحِلِ الشَّامِ يَنْهَبُهَا، وَيُخَرِّبُهَا، لِيَعُودَ بَعْضُ مَنْ بِدِمْيَاطَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَيَخِفَّ الْأَمْرُ عَلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ، صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمَّا رَأَى بَدْرُ الدِّينِ تَحَرُّكَ مُظَفَّرِ الدِّينِ وَعِمَادِ الدِّينِ، وَأَنَّ بَعْضَ عَسْكَرِهِ بِالشَّامِ، أَرْسَلَ إِلَى عَسْكَرِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ الَّذِي بِنَصِيبِينَ يَسْتَدْعِيهِمْ لِيَعْتَضِدَ بِهِمْ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ مَمْلُوكَ الْأَشْرَفِ، اسْمُهُ أَيْبَكُ، فَسَارُوا إِلَى الْمَوْصِلِ رَابِعَ رَجَبٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ.
فَلَمَّا رَآهُمْ بَدْرُ الدِّينِ اسْتَقَلَّهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقَلَّ مِنَ الْعَسْكَرِ الَّذِي لَهُ بِالشَّامِ، أَوْ مِثْلَهُمْ فَأَلَحَّ أَيْبَكُ عَلَى عُبُورِ دِجْلَةَ وَقَصْدِ بِلَادِ إِرْبِلَ، فَمَنَعَهُ بَدْرُ الدِّينِ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِرَاحَةِ، فَنَزَلَ بِظَاهِرِ الْمَوْصِلِ أَيَّامًا، وَأَصَرَّ عَلَى عُبُورِ دِجْلَةَ، فَعَبَرَهَا بَدْرُ الدِّينِ مُوَافَقَةً لَهُ، وَنَزَلُوا عَلَى فَرْسَخٍ مِنَ الْمَوْصِلِ شَرْقِيَّ دِجْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ مُظَفَّرُ الدِّينَ ذَلِكَ جَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ زَنْكِي، فَعَبَرَ الزَّابَ وَسَبَقَ خَبَرُهُ، فَسَمِعَ بِهِ بَدْرُ الدِّينِ فَعَبَّأَ أَصْحَابَهُ، وَجَعَلَ أَيْبَكَ فِي الْجَالِشِيَّةِ وَمَعَهُ شُجْعَانَ أَصْحَابِهِ، وَأَكْثَرَ مَعَهُ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَجَعَلَ فِي مَيْسَرَتِهِ أَمِيرًا كَبِيرًا وَطَلَبَ الِانْتِقَالَ عَنْهَا إِلَى الْمَيْمَنَةِ فَنَقَلَهُ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَشَاءِ الْآخِرَةِ أَعَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ الطَّلَبَ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَيْمَنَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute