الْكُبْرَى الَّتِي يَصْغُرُ عِنْدَهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ الْخُطْبَةَ لِلْأَمِيرِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ ابْنِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَعَهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبِلَادِ فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ لَهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلِيٍّ، فَاتَّفَقَ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْخَلِيفَةِ وَلَدٌ غَيْرُ وَلِيِّ الْعَهْدِ، فَاضْطُرَّ إِلَى إِعَادَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ تَحْتَ الِاحْتِيَاطِ وَالْحَجْرِ لَا يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَأَحْضَرَ النَّاسَ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ، وَتَلَقَّبَ بِالظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنَى أَنَّ أَبَاهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَرَادُوا صَرْفَ الْأَمْرِ عَنْهُ، فَظَهَرَ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا بِسَعْيٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ، أَظْهَرَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا أَعَادَ بِهِ سُنَّةَ الْعُمَرَيْنِ، فَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَهُ لَكَانَ الْقَائِلُ صَادِقًا، فَإِنَّهُ أَعَادَ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ فِي أَيَّامِ أَبِيهِ وَقَبْلَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ فِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الْخَرَاجِ الْقَدِيمِ فِي جَمِيعِ الْعِرَاقِ، وَأَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُ مَا جَدَّدَهُ أَبُوهُ، وَكَانَ كَثِيرًا لَا يُحْصَى، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَرْيَةَ بَعْقُوبَا كَانَ يُحَصَّلُ مِنْهَا قَدِيمًا نَحْوَ عَشْرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا تَوَلَّى النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَهْلُهَا وَاسْتَغَاثُوا، وَذَكَرُوا أَنَّ أَمْلَاكَهُمْ أُخِذَتْ حَتَّى صَارَ يُحَصَّلُ مِنْهَا هَذَا الْمَبْلَغُ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ الْقَدِيمُ وَهُوَ عَشْرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْمَبْلَغَ يَصِلُ إِلَى الْمَخْزَنِ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْعِوَضُ؟ فَأَقَامَ لَهُمُ الْعِوَضَ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَمَا الظَّنُّ بِبَاقِي الْبِلَادِ؟ وَمِنْ أَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ الْأَوَّلِ مِنْ بَاقِي الْبِلَادِ جَمِيعِهَا، فَحَضَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْأَمْلَاكَ الَّتِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْخَرَاجُ قَدِيمًا قَدْ يَبِسَ أَكْثَرُ أَشْجَارِهَا وَخُرِّبَتْ، وَمَتَى طُولِبُوا بِالْخَرَاجِ الْأَوَّلِ لَا يَفِي دَخْلُ الْبَاقِي بِالْخَرَاجِ، فَأَمَرَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْخَرَاجُ إِلَّا مِنْ كُلِّ شَجَرَةٍ سَلِيمَةٍ، وَأَمَّا الذَّاهِبُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute