للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيَاءً مِنْهُ.

وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، مِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَمِنْ جُهَيْنَةَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ، وَطَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وَقَيْسٍ.

فَلَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا هَلَاكَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ بَغَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِلَادِهَا، فَدَخَلَ عَنْوَةً، إِنَّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَخْرُجُ لَعَلِّي أَرَى حَطَّابًا أَوْ رَجُلًا يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتُونَهُ وَيَسْتَأْمِنُونَهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ أَطُوفُ فِي الْأَرَاكِ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ؛ قَدْ خَرَجُوا يَتَجَسَّسُونَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ نِيرَانًا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ. فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ - يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يُكَنَّى بِذَلِكَ - فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ؟ ! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَبَّيْكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْلِمِينَ أَتَاكُمْ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ. قَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟ قُلْتُ: تَرْكَبُ مَعِي، فَأَسْتَأْمِنُ لَكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَرَدَفَنِي، فَخَرَجْتُ أَرْكُضُ بِهِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى مَرَرْنَا بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ! ثُمَّ اشْتَدَّ نَحْوَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ فَسَبَقْتُ عُمَرَ، وَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِرَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُلْتُ: لَا يُنَاجِيهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ دُونِي. فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمَرُ قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَوَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَقَدْ آمَنَّاهُ حَتَّى تَغْدُوَ عَلَيَّ بِهِ بِالْغَدَاةِ. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَغَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي، أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ، تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ! قَالَ: فَتَشَهَّدَ، وَأَسْلَمَ مَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَبَّاسِ: اذْهَبْ فَاحْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>