للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذلك لم يوطن نفسه على مقتضى النهى

وَاذكر يا أكمل الرسل نبذا من عهودنا معه وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده تعظيما له وتكريما إذ هو أفضل منكم واجمع لتجليات اوصافنا وأسمائنا فَسَجَدُوا ووقعوا عنده على تراب المذلة تعظيما له وامتثالا لأمرنا إِلَّا إِبْلِيسَ من بينهم قد أَبى وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه وبعد ما استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته

فَقُلْنا يا آدَمُ المكرم المسجود له إِنَّ هذا اى إبليس المتخلف عن سجودك عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فاحذر أنت اصالة وهي ايضا تبعا لك عن مصاحبته وتغريره وبالجملة لا تتكلما معه ولا تقبلا منه وسوسته فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ التي هي محل الحضور والسرور الى دار الابتلاء والغرور فَتَشْقى أنت يا آدم على الخصوص وتتعب وتعيى بسبب المعيشة إذ معيشتك صارت عن كد يمينك ولا تعب لك في الجنة

وكيف لا إِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لشأنك أَلَّا تَجُوعَ فِيها اى في الجنة إذا كلها دائم غير منقطع وَلا تَعْرى إذا لبستها متجددة دائمة غير بالية وحللها غير منقطعة

وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إذ العطش انما يحصل من فرط الحرارة ولا حرارة فيها وَلا تَضْحى أنت ايضا إذ لا برودة فيها بل هي معتدلة دائما لا افراط للحرارة والبرودة فيها ثم لما عاش آدم فيها زمانا مستريحا بلا تعب ولا عناء اظهر إبليس عداوته وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها إذ هما ماداما في الجنة لم يقدر على اضلالهما لجريان حالهما فيها على مقتضى العدالة الفطرية التي هما جبلا عليها

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ والقى وسوسته في نفسه حيث قالَ يا آدَمُ على وجه النصيحة والتغرير هنيئا لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وأهديك إليها ان أكلته منها فقد أخلدت نفسك بل خلدت أنت وزوجتك فيها ابدا وَبالجملة أهديك على مُلْكٍ لا يَبْلى ولا يخلق ولا يفنى بل يتجدد دائما بتجدد الأمثال بلا انتقال وزوال ثم لما وسوس إليهما سمعا منه قوله وقبلا وسوسته الى ان قد نسيا عهد ربهما مطلقا

فَأَكَلا مِنْها اى من الشجرة المنهية حتى يشبعا وأرادا ان يتبرزا ويتغوطا وبعد ما ارتكبا المنهي عنه وظهر منهما ما هو مناف لنظافة الجنة وطهارتها وبالجملة قد خرجا عن مقتضى العدالة الفطرية امر سبحانه باخراجهما منها بعد نزع لباسهما عنهما وبعد ما نزع لباسهما اى لباس الطهارة والنجابة والتقوى الجبلية الموهوبة لهما بمقتضى العدالة الإلهية فَبَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما فاضطرا على التستر والتغطى وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ يلزقان ويلصقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى من أوراق بعض أشجارها قيل هي ورق التين وَبعد ما صار حالهما كذلك قالت الملائكة صائحين صارخين بعد انتهاز الفرصة قد عَصى آدَمُ المكرم المسجود له رَبَّهُ الذي رباه بتناول ما يصلحه ونهاه عن تناول ما يضره ويفسده بان اعرض عن النهى الإلهي وبادر الى ارتكاب المنهي عنه بغرور الشيطان الغوى المضل فَغَوى باغواء إبليس وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو لان العدو انما يلقى عدوه عكس مطلوبه

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ بعد ما ألهمه سبحانه الانابة والرجوع اليه فاعترف بذنبه نادما ورجع الى ربه تائبا بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية فَتابَ عَلَيْهِ سبحانه وقبل توبته وَهَدى اى هداه نحو مقصده الأصلي وقبلته الحقيقية الا انه سبحانه لا يبطل حكمة حكمه السابق المترتب على النهى وهو قوله تعالى فتكونا من الظالمين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والعدالة الفطرية لذلك

قالَ اهْبِطا مِنْها وانزلا واخرجا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور الى الدنيا التي هي دار التفرقة

<<  <  ج: ص:  >  >>