للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آناء الأيام والليالى

رِجالٌ اى ابطال كمل مخلصون منجذبون نحو الحق مشمرون أذيال هممهم لسلوك طريق الفناء منقطعون عن الدنيا الدنية وما فيها بحيث لا تُلْهِيهِمْ ولا تشغلهم ولا تخدعهم ولا تغرهم تِجارَةٌ وأرباح متعلقة بالنشأة الدنيوية والاخروية ايضا وَلا بَيْعٌ ايضا كذلك مطلقا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحو جنابه والعكوف حول بابه وَلا عن إِقامِ الصَّلاةِ ودوام الميل اليه والمناجاة معه وَلا عن إِيتاءِ الزَّكاةِ وانفاق ما في أيديهم وما ينسب إليهم خالصا لوجهه الكريم ومع ذلك يَخافُونَ يَوْماً اى عذاب يوم واى يوم يوما تَتَقَلَّبُ اى تتقلقل وتضطرب فِيهِ الْقُلُوبُ وَتدهش وتتحير فيه الْأَبْصارُ

كل ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ المجازى عن عموم أعمالهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا اى يجزى أعمالهم الجميلة الصادرة عنهم بأحسن الجزاء وأجملها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ امتنانا عليهم وتفضلا وَاللَّهُ المكرم المفضل لخواص عباده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم من الرزق المعنوي الحقيقي مستوفى بِغَيْرِ حِسابٍ بلا مقابلة أعمالهم ومعاوضة حسناتهم بل بمحض الكرم والجود.

ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة منه في كتابه هذا وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق وأنكروا عليه وأظهروا الباطل ظلما وزورا وأصروا عليه عنادا ومكابرة لذلك صارت أَعْمالُهُمْ التي خيلوها صالحة مستجلبة لانواع الخير والحسنى لهم في يوم الجزاء على عكس اعمال اهل الايمان عندهم وبزعمهم كَسَرابٍ اى صارت أعمالهم مثل سراب يلمع ويبرق بِقِيعَةٍ اى بادية وصحراء بحيث يَحْسَبُهُ ويظنه الظَّمْآنُ من بعيد ماءً مسكنا للعطش مبردا للأكباد فلما رآه العطشان سار اليه وسارع نحوه وسعى سعيا سريعا حَتَّى إِذا جاءَهُ بعد تعب كثير وعناء مفرط مؤملا الوصول الى الماء لَمْ يَجِدْهُ ماء بل لم يجد ايضا شَيْئاً آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي يتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة واضطرابها ومن تشتت البال وضعف القوى واختلال المزاج والحال باستيلاء العطش المفرط وحرقة الكبد وَبعد ما قد ايس من وجدان الماء وكذا عن نفع الأعمال وَجَدَ اللَّهَ المراقب عليه في عموم أحواله محاسبا إياه عن جميع ما صدر عنه حاضرا شهيدا عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ على الوجه الاقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصان وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى على عباده في جميع شئونهم وتطوراتهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم بمقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه

أَوْ مثل اعمال الكفرة في عدم النفع والخير كَظُلُماتٍ اى كاصحاب ظلمات متراكمة في ليلة مظلمة وهم ليلتئذ مضطرون مغمورون فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق غائر منسوب الى اللج وهو معظم الماء يَغْشاهُ اى يغطى البحر ويعلو عليه مَوْجٌ هائل مِنْ فَوْقِهِ اى فوق الموج الاول وعقبه مَوْجٌ آخر اهول منه وهكذا تترادف وتتوالى وتتعاقب امواج كثيرة متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالى مع انه مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج المظلم المتجدد بتجدد الأمثال سَحابٌ كثيف ثقيل اظلم منه وبالجملة تلك الأمواج والسحب ظُلُماتٌ متراكمة مترادفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وأشد منه بحيث إِذا أَخْرَجَ من وقع واضطر فيها يَدَهُ حذاء بصره اختيارا لنظره لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يرى يده ويشهدها بالقوة فكيف الرؤية بالفعل هكذا اعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال المغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان من فوقها السحب الكثيفة والحجب الغليظة

<<  <  ج: ص:  >  >>