للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ارتعد من هول تلك الصدا جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من سكانها وَكذا جميع مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تمكنه وقرار قلبه مطمئنا بلا قلق واضطراب ألا وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله المتحققون بمقام البقاء ببقائه الواصلون الى شرف لقائه بلا تذبذب وتلوين منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأسا وصاروا بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَبعد ما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا كُلٌّ ممن يتأتى منهم الإتيان أَتَوْهُ على كلتا القرائتين فعلا او اسم فاعل اى حضروا عند الداعي النافخ او هم حاضروه داخِرِينَ صاغرين ذليلين منتظرين الى ما جرى عليهم من حكم الله أيساقون الى النار حسب قهره وعدله أم الى الجنة حسب فضله وطوله

وَتَرَى ايها الرائي يومئذ الْجِبالَ الرواسي التي تَحْسَبُها وتظنها أنت جامِدَةً ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب وَهِيَ في أنفسها يومئذ تَمُرُّ اى تتحرك وتذهب مَرَّ السَّحابِ كمروره وسرعة سيره إذ الأشياء العظيمة التي لا تحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وان اسرع فيها بل يظن انها ثابتة في مقره وهكذا حال الجبال وجميع الاظلال والاطلال المشهودة في عالم الحس والخيال كل طرفة وآن على التقضي والارتحال قبل قيام الساعة ولو تفطنت بمرورها ايها الفطن اللبيب لوجدتها في كل آن على التقضي والانصرام إذ الاعراض لا قرار لها ولا قيام والعكوس والأشباح لا مرار لها ولا نظام بل كل يوم وآن في شأن لا كشأن الذي سيمضى وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ومرور الجبال على هذا المنوال انما يكون صُنْعَ اللَّهِ اى من صنع الله القادر القوى الَّذِي أَتْقَنَ واحكم كُلَّ شَيْءٍ اتقانا بديعا ودبره تدبيرا انيقا عجيبا وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها احد من عباده إذ لا يسع لهم الاطلاع على أفعاله سبحانه بل إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم الظاهرة والباطنة يجازيهم عليها بمقتضى خبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر لذلك

مَنْ جاءَ من المكلفين في دار الابتلاء بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس فَلَهُ في دار الجزاء خَيْرٌ مِنْها إذ يعطى له بدلها سبعمائة من الحسنة وقد أبدل الخسيس بالشريف سيما بأضعافه والفاني بالباقي وَهُمْ ايضا مع وفور هذه المثوبات مِنْ فَزَعٍ هائل مهول للناس يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ في الصور آمِنُونَ مطمئنون متمكنون لا يضطربون من هولها ولا يفزعون

وَمَنْ جاءَ في دار الاختبار بِالسَّيِّئَةِ المردودة عند الله وعند الناس من الأمور التي قد حرمها الشرع والعقل والمروءة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ اى كبوا على وجوههم في النار صاغرين ذليلين قيل لهم حينئذ زجرا عليهم وطرد الهم هَلْ تُجْزَوْنَ وما تجازون بهذا الهوان والصغار إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب عملكم من السيئات الجالبة له في النشأة الاولى. ثم لما امر سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما اوحى اليه من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين وبيان مبدأهم ومعادهم وما يئول اليه أمرهم بعد ما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار اما الى دركات النيران واما الى درجات الجنان. ثم بين لهم سبحانه طريق الوصول الى مقر التوحيد والتمكين في مقام التجريد والتفريد حيث امر له صلى الله عليه وسلم ايضا بان قال لهم امحاضا للنصح كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الميل الى الهوى

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ عبادة خاصة خالصة عن جميع الرياء والرعونات رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أراد بها مكة

<<  <  ج: ص:  >  >>