يقول السائل: البعض من المرضى يتذمر ويكثر من الشكوى ويتسخط مما فيه من مرض، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء وذلك بالاحتساب والصبر؟ جزاكم الله خيراً.
فأجاب رحمه الله تعالى: نصيحتي لإخواني هؤلاء المرضى ومن أصابهم مصائب في أموالهم وأهليهم: أن يصبروا ويحتسبوا، ويعلموا أن هذه المصائب ابتلاءٌ من الله سبحانه وتعالى واختبار، كما قال الله تبارك وتعالى:(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . وإذا كان الله تعالى يبتلي العبد بالنعم ليختبره أيشكر أم يكفر، فكذلك يبتلي عبده بما يضاد ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع ويتسخط. ويعين المرء على الصبر على هذه الأمور أمور: الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه، وأن الخلق كلهم خلقه وعبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، لحكمةٍ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فلا اعتراض عليه سبحانه وتعالى فيما فعل في ملكه:(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) . الثاني: أن يؤمن بأن هذه المصائب التي تصيبه تكفير لسيئاته، تحط عنه الخطايا ويغفر له بها الذنوب، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولقد أصيبت امرأةٌ من العابدات في أصبعها، ولكنها لم تتسخط ولم يظهر عليها أثر التشكي، فقيل لها في ذلك فقالت:(إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها) . ومن المعلوم أن الصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر الإنسان عليه حتى يكون من الصابرين، و (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
ثالثاً: أن يتسلى بما يصيب الناس سواه، فإنه ليس وحده الذي يصاب بهذه المصائب، بل في الناس من يصاب بأكثر من مصيبته. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم- وهو أشرف الخلق عند الله- يصاب بالمصائب العظيمة، حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا، ومع ذلك يصبر ويحتسب. وفي التسلي بالغير تهوينٌ عن المصاعب. رابعاً: ان يحتسب الأجر على الله عز وجل بالصبر على هذه المصيبة، فإنه إذا احتسب الأجر على الله عز وجل بالصبر على هذه المصيبة فإنه- مع تكفير السيئات به- يرفع الله له بذلك الدرجات، بناءً على احتسابه الأجر على الله سبحانه وتعالى. ومن المعلوم أن كثيراً من الناس منغمرٌ في سيئاته، فإذا جاءت مثل هذه المصائب: المرض، أو فقدان الأهل أو المال أو الأصدقاء، أو ما أشبه ذلك هان عليه الشيء بالنظر إلى ما له من الأجر والثواب على الصبر عليه، واحتساب الأجر من الله، وكلما عظم المصاب كثر الثواب. خامساً: أن يعلم أن هذه المصائب من الأمراض وغيرها لن تدوم، فإن دوام الحال من المحال، بل ستزول إن عاجلاً وإن آجلا، ً لكن كلَّما ما امتدت ازداد الأجر والثواب. وينبغي في هذه الحال أن نتذكر قول الله تبارك وتعالى:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) سادساً: أن يكون لديه أمل قوي في زوال هذه المصيبة، فإن فتح الآمال يوجب نشاط النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، وإن الإنسان كلما مضى عليه ساعة رأى أنه أقرب إلى الفرج وزوال هذه المصائب كان في ذلك منشطاً نفسه حتى ينسى ما حل به، ولا شك أن الإنسان الذي ينسى ما حل به أو يتناساه لا يحس به، فإن هذا أمرٌ مشاهد: إذا غفل الإنسان عما في نفسه من مرضٍ أو جرح أو غيره يجد نفسه نشيطاً وينسى ولا يحس بالألم، بخلاف ما إذا ركز شعوره على هذا المرض أو على هذا الألم فإنه سوف يزداد. وأضرب لذلك مثلاً بالعمال: تجد العامل في حال عمله ربما يسقط عليه حجرٌ يجرح قدمه، أو تصيبه زجاجة تجرح يده أو ما أشبه ذلك، وهو مستمرٌ في عمله ولا يحس بما أصابه، لكن إذا فرغ من عمله ثم توجهت نفسه إلى هذا الذي أصابه حينئذٍ يحس به. ولهذا لما شكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الوساوس التي يجدها الإنسان في نفسه قال عليه الصلاة والسلام:(إذا أحس بذلك فليستعذ بالله، أو: إذا وجد ذلك فليستعذ بالله ثم لينتهِ) ، يعني: ليعرض عن هذا ويتغافل عنه فإنه يزول، وهذا شيء مشاهد ومجرب، ففي هذه الأمور الستة يحصل للمريض الطمأنينة والخير الكثير. الأمر السابع: أن يؤمن بأن الجزع والتسخط لا يزيل الشيء، بل يزيده شدة وحسرة في القلب، كما هو ألمٌ في الجسد. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن الناس تجاه المصائب التي تقع بهم ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من جزع وتسخط ولم يصبر، بل دعا بالويل والثبور، وشق الجيوب ولطم الخدود ونتف الشعور، وصار قلبه مملوءًا غيظاً على ربه عز وجل، فهذا خاسرٌ في الدنيا والآخرة؛ لأن فعله هذا حرام، والألم لا يزول به، فيكون بذلك خسر الدنيا والآخرة، وربما يؤدي ذلك إلى الكفر بالله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . الحال الثانية: الصبر، بمعنى أن هذا المصاب لا يحب أن تقع المصيبة، بل يكرهها ويحزن لها، لكنه يصبر: فيمنع قلبه عن التسخط، ولسانه عن الكلام، وجوارحه عن الفعال، ولكنه يتجرع مرارة الصبر ولا يحب أن ذلك وقع، فهذا أتى بالواجب وسلم ونجا. الحال الثالثة: أن يقابل هذه المصيبة بالرضا وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى كأنه لم يصب بها؛ لقوة رضاه بالله عز وجل. فالفرق بينه وبين الأول الذي قبله: أن الأول عنده كراهة لما وقع ويتجرع مرارة الصبر عليه، أما هذا فلا, ليس عنده كراهة ولا في نفسه مرارة، يقول: أنا عبد والرب رب، ولم يقدر لي هذا إلا لحكمة، فيرضى تماماً. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الرضا: هل هو واجب أو مستحب؟ والصحيح أنه مستحب؛ لأنه صبرٌ وزيادة، والصبر سبق أنه واجب، وأما ما زاد على الصبر فإنه مستحب، فالراضي أكمل من الصابر. الحال الرابعة: الشكر لله عز وجل على ما حصل، فيشكر الله سبحانه وتعالى على هذه المصيبة. ولكن قد يقول قائل: إن هذا أمرٌ لا يمكن بحسب الفطرة والطبيعة أن يشكر الإنسان ربه على مصيبة تقع عليه. فيقال: نعم، لو نظرنا إلى مطلق المصيبة لكانت الفطرة تأبى أن يشكر الله على ذلك، ولكن إذا نظر الإنسان إلى ما يترتب على هذه المصيبة: من مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات شكر الله سبحانه وتعالى أن ادخر له من الأجر والثواب خيراً مما جرى عليه من هذه المصيبة، فيكون بذلك شاكراً لله سبحانه وتعالى. وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أصابه ما يسره قال:(الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) ، وإذا أصابه خلاف ذلك قال:(الحمد لله على كل حال) . وهذا هو الذي ينبغي أن يقوله الإنسان. أما ما اشتهر على لسان كثيرٍ من الناس حيث يقول إذا أصيب بمصيبة: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه، فهي عبارةٌ بشعة، ولا ينبغي للإنسان أن يقولها؛ لأن هذا يعلن إعلاناً صريحاً بأنه كارهٌ لما قدر الله عليه، وفيه شيء من التسخط وإن كان غير صريح، ولهذا نقول: ينبغي لك أن تقول ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول، وهو:(الحمد لله على كل حال) . وفي النهاية أوصي إخواني المرضى ومن أصيبوا بمصيبة أن يصبروا على ذلك، وأن يحتسبوا الأجر من الله عز وجل، والله تعالى مع الصابرين، و:(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .