يسري حامد يقول: ما أقسام التوحيد مفصلة؟ لأننا في زمن كثرت فيه الشركيات، فنشاهد أناساً يذبحون عند الأضرحة ويطوفون بها ويتقربون إليها؟
فأجاب رحمه الله تعالى: سؤال الأخ عن التوحيد وأقسامه سؤال مهم؛ لأن التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) . والرسل حكى الله عنهم على وجه التفصيل أنهم كانوا يقولون لأقوامهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) . والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بتحقيق هذا التوحيد تحقيقاً تامّاً يمنع العبد من الإشراك بالله الشرك الصغير والكبير، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن أقسام التوحيد ثلاثة، وذلك بالتتبع والاستقراء، أولها: توحيد الربوبية، والثاني: توحيد الألوهية، والثالث: توحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) فقوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا توحيد الربوبية، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) هذا توحيد الألوهية، وقوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) هذا توحيد الأسماء والصفات، أي لا تعلم له سميّاً أي: مساميا يضاهيه ويماثله عز وجل. أقسام التوحيد ثلاثة:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله عز وجل في الخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، لا أحد يقوم بهذا على وجه الإطلاق والعموم والشمول إلا الله رب العالمين، فهو المتفرد بالخلق، المتفرد بالملك، المتفرد بالتدبير، قال الله عز وجل: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) . فالآية هذه فيها حصر الخلق والأمر في الله وحده، وذلك بتقديم الخبر (له) على المبتدأ (الخلق) ، وتقديم ماحقه التأخير يفيد الحصر، كما قرر ذلك علماء البلاغة، فالخلق كله له، والأمر كله له عز وجل، لا يشركه أحد، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) . وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) . فبين الله عز وجل أن هؤلا السفهاء الذين يشركون، الذين اتخذهم عبادهم شفعاء عند الله، شركاء مع الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض على وجه الاستقلال بها دون الله، ما لهم فيهما من شرك، أي: لا يملكون شركة مع الله عز وجل، فليسوا مستقلين في شيء، وليسوا شركاء مع الله في شيء، (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يعني: ما لله أحد من هؤلاء يساعده ويعينه عز وجل، بل هو مستغنٍ عن جميع خلقه، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) وذلك لكمال سلطانه وعظيم ملكه عز وجل، لا أحد يشفع عنده يتوسط بشيء لأحد من خير أو دفع ضرر إلا بإذنه عز وجل، وفي هذا قطع لجميع ما يتعلق به المشركون الذين يدعون أنهم يعبدون هذه الأصنام، يتخذونها شفعاء عند الله، قال: (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ومن المعلوم أن الله لن يأذن لهذه الأصنام أن تشفع، ولا يأذن لأحد أن يشفع لعابد هذه الأصنام، قال الله تبارك وتعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) . وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) . وحينئذٍ تنقطع كل الآمال التي يتعلق بها هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله غيره، يرجونه نفعاً أو دفع ضرر، فإن ذلك لا ينفعه، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . إذاً توحيد الربوبية إفراد الله عز وجل بأمور ثلاثة: بالخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله. وما يوجد من المخلوق من صنع الأشياء، وما يوجد من المخلوق من الملك، وما يوجد للمخلوق من التدبير، فكله تدبير ناقص، وهم أيضاً غير مستقلين به، بل ذلك من خلق الله عز وجل، أما المنفرد بذلك على وجه الاستقلال فهو الله سبحانه وتعالى، فللمخلوق خلق وإيجاد، لكنه ليس كخلق الله، فالله تعالى موجد الأشياء من العدم، والمخلوق لا يستطيع أن يوجد الشيء من العدم، وإنما يستطيع أن يركب شيئاً مع شيء،أو يغير صورة شيء إلى شيء، كما لو غير النجار الخشبة إلى باب، والحداد الصفائح الحديد إلى أبواب وما أشبه ذلك، لكنه لن يخلق هذه المادة، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) . كذلك الإنسان له ملك، قال الله تعالى: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) . وقال الله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه) . ولكن هذا الملك ملك مقيد محدود ليس بشامل، وليس للإنسان فيه مطلق التصرف، بل هو محدود، فما بيدي من الملك ليس لك، وما بيدك من الملك ليس لي، ثم إنه ملك محدود لا تستطيع أن تتصرف فيه إلا على حسب ما جاءت به الشريعة. وكذلك للإنسان تدبير: يدبر مملوكه، ويدبر زوجته، يدبر أهله، لكنه تدبير ناقص ليس بشامل، ولا للإنسان فيه مطلق الحرية، وبهذا عرفنا أن المنفرد بالخلق والمنفرد بالملك والمنفرد بالتدبير هو الله عز وجل وحده. هذا قسم من أقسام التوحيد، وهذا التوحيد لم ينكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يقرون به غاية الإقرار، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وهكذا الآيات الكثيرة كلها تدل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم كانوا يقرون بهذا التوحيد، لكن ذلك لم ينفعهم؛ لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، توحيد العبادة الذي هو حق الله الخاص له، وهو:
القسم الثاني: توحيد الألوهية، المستفاد من قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) والألوهية مبنية على شيئين، بل العبادة مبنية على شيئين: المحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون الرجاء وفعل الأوامر، طلباً للوصول إلى محبة الله عز وجل وثوابه، والتعظيم- وهو الأساس الثاني للعبادة- به يترك الإنسان المناهي التي نهى الله عنها؛ لأنه بتعظيمه لله يترك مناهيه ويخاف من عقابه. ثم إن العبادة لها شرطان: الشرط الأول: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فللعبادة إذاً ركنان ولها شرطان، أما ركناها فالمحبة والتعظيم وهما الأساس، وأما شرطاها فهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) . وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . ودليل المتابعة قوله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . وقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . أي: مردود على صاحبه؛ لأنه لم تتحقق فيه المتابعة. وإذا نظرنا إلى حال كثير من المسلمين اليوم وجدنا أنهم ليسوا على توحيد خالص في باب الألوهية والعبودية: فمنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الأولياء، ومنهم من يطوف بالقبور رجاءً لنفعها ودفعها للضرر، ومنهم من يُؤلِّه الحكام ويجعلهم في منزلة الألوهية، يطيعهم فيما حرم الله فيستحله وفيما أحل الله فيحرمه، وهذا هو اتخاذهم أرباباً، قال الله تبارك وتعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . ويروى عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتلك عبادتهم) . وهذا القسم من التوحيد هو الذي خالف فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروا عليه، وقالوا فيه: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) . وسبحان الله أن يكون التوحيد عجاباً، وأن يكون شركه صواباً. فالعجب العجاب الذي لا ينقضي هو أن يشرك هؤلاء بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، وقد استباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم دماء هؤلاء المشركين ونساءهم وذرياتهم وأموالهم وقاتلهم على ذلك أشد المقاتلة، حتى يعبدوا الله عز وجل أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
أما القسم الثالث فهو توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفى الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه ورسوله، إثباتاً بلا تمثيل، ونفياً بلا تعطيل. وهذا هو الذي انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى أقسام متعددة: فمنهم السلف، وهم فقط أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إثباتاً بلا تمثيل، ونفوا ما نفى الله عن نفسه نفياً بلا تعطيل، وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله. فمن ذلك أنهم أثبتوا لله كل ما وصف به نفسه، كل صفة أثبتها لنفسه: من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والعزة والحكمة والرحمة والعجب والضحك، وأثبتوا لله الوجه واليدين والعينين، وأثبتوا لله القدم والساق، وكذلك كل ما وصف الله به نفسه أثبتوه لله عز وجل لكن بلا تمثيل، يثبتون هذا ويقولون: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . فيقولون: لله يد ولكن ليستا كأيدينا، وجه لكن ليس كوجوهنا، عينان لكن ليست كأعيننا، وهكذا بقية الصفات. ويقولون أيضاً: إن الله استوى على العرش، علا عليه علوّاً يليق بجلاله عز وجل، لكن ليس كاستوائنا نحن على السرير أو على الدابة أو على الفلك؛ لا؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . هذا هو مذهب السلف: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الأسماء والصفات، والسكوت عما سكت عنه. وبعد ذلك تنازع الناس تنازعاً طويلاً عريضاً لا ينبني على أصل، لا من المعقول ولا من المنقول: فأثبت قوم الأسماء، وأثبتوا من الصفات صفات قليلة، وليس على الوجه الذي يثبته عليه أهل السنة والجماعة، بل يخالفونه في كيفية هذا الإثبات. وأثبت قوم الأسماء، ونفوا الصفات كلها، أو إلا الحياة والعلم والقدرة. ونفى قوم الأسماء والصفات، ونفى قوم الإثبات والنفي، واضطربوا في ذلك اضطراباً كثيراً. لكن من هؤلاء من تصل بدعته إلى حد الكفر المخرج من الملة، ومنهم من دون ذلك، ولكن الحق فيما ذهب إليه السلف، وهم أهل السنة والجماعة: إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي كل صفة نفاها الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه، وهذه الطريقة السليمة الثابتة سمعاً وعقلاً وفطرةً. وللناس في هذا كتب ورسائل معلومة، ومن أحسن ما رأيته تقريباً لهذا الأصل العظيم ما كتبه شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله، وكتبه تليمذه ابن القيم، فإنهما كتبا في هذا الباب كتابات عظيمة مفيدة، ما رأيت أحداً كتب مثل كتابتهما، وغالب من يكتب في هذا الباب تجدهم يقلد بعضهم بعضاً، ولهم مقلدون لا يخرجون عن كلامهم ولو تبين الحق، والحقيقة أن الواجب على المرء أن يتبع ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، وأنه ليس بمعذور إذا خالف ذلك من أجل قول فلان وفلان، قد يخطئ فلان وفلان من المتبوعين خطأً يعذر فيه، لكن التابع الذي تبين له الحق لا يعذر في اتباعه لهؤلاء الذين أخطؤوا. وإنني من هذا المنبر منبر نور على الدرب في إذاعة المملكة العربية السعودية أدعو جميع إخواني الذين درسوا في هذا العلم علم التوحيد علم العقائد، أدعوهم إلى تقوى الله عز وجل، وأن يسلكوا ما سلكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم في هذا الباب العظيم الخطير؛ لأن هذا الباب مبناه على الخبر المحض، ليس للعقول فيه مجال إلا على سبيل الإجمال، فإن العقول تهتدي إجمالاً إلى أن الله موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولكن لا تدرك هذا على وجه التفصيل، وإنما يؤخذ ذلك من الكتاب والسنة، وإذا كان هذا هو الواقع، وأن ما يتعلق بصفات الله وأسمائه خبر محض، فإنه يجب علينا أن لا نحيد عن ما جاء به الكتاب والسنة قيد أنملة، ولا سمك شعرة، بل يجب علينا قبول ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ولقد رأينا أن الذين يحيدون عن هذه السبيل ويتخبطون خبط عشواء في بعض أسماء الله وصفاته، رأينا أنهم يضلون كثيراً، ويؤدي بهم الحال إلى الشرك وإلى الحيرة، كما نقل ذلك عن كثيرٍ من زعمائهم، حتى إن الفخر الرازي وهو من رؤسائهم قال فيما نقل عنه، إما منشداً وإما ناظماً:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، وجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) . وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) . ويقول الآخر:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وهذا يدل على أن هؤلاء المتكلمين الذين ذهبوا يحكمون على الله تعالى بعقولهم فيما يصفونه به كانوا في حيرة شديدة، وأن من بلغ منهم الغاية في علم الكلام رجع إلى الحق، وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة: من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونفي ما نفى الله عنه أو ما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والسكوت عن ما لم يرد به إثبات ولا نفي، وهذا هو الأدب مع الله ورسوله، فعلينا جميعاً أن نتوب إلى الله عز وجل، وأن نرجع إلى منهج سلفنا الصالح في هذا الباب العظيم الخطير. ونسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والتوفيق لمنهج السلف الصالح، وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم.
***