للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عندنا بعض التجار الذين يدينون لمدة سنة يكون مثلاً عنده مائة أو مائتا قطمة هيل في دكانه ويجيء الذي يريد أن يتدين منه هذه القطم ويقول له التاجر استلم منه مثلاً عشرة، عشرين حسب الذي استدان منه ويتسلمها الضعيف ثم يجيء آخر يستدين ثم يدينها إياه مرةً ثانية وهي بمكانها ما حركت ويدينها عدة أشخاص فهل هذا يجوز على أنه يدينها عدة أشخاص وهي بمكانها هل هذا فيه شيء من الربا؟

فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة التي ذكرها السائل ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين مع الأسف الشديد وهي في الواقع مرة ومحزنة لكنها مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم (لتركبن سنن من كان قبلكم قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن) هذه المسألة هي من الحيل التي كان اليهود يرتكبون مثلها أو أقل أو أكثر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نفعل مثل فعلهم من هذه الحيل من المعلوم أن الرجل لو أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال نقداً سلمها له ورقاً وقال هذه العشرة باثني عشرة ألفاً إلى سنة من المعلوم للجميع أن هذا ربا وأنه محرم وأن المرابي عليه من الوعيد والعقوبة ما هو معلومٌ لكل مسلمٍ فالله تعالى يقول في الذين يرابون (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) والنبي صلى الله عليه وسلم (لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه) وقال (هم سواء) والحديث في مسلم وفيه أحاديث كثيرة تدل على غلظ هذا العمل عمل الربا وأنه من كبائر الذنوب العظيمة فإذا كان معلوماً أن ما صورناه من قبل من الربا وهو صريح فإن التحيل على هذا بأي نوعٍ من أنواع الحيل يعتبر وقوعٌ فيه إذاً الحيلة على المحرم لا تقلبه مباحاً بل تزيده قبحاً إلى قبحه لأن الحيلة على المحرم يجتمع فيها أمران محظوران أحدهما الوقوع في المحرم والثاني المخادعة لله ورسوله ونحن نضرب مثلاً بما هو أكبر من ذلك وهو الكفر فالكافر الصريح الذي يعلن في كفره هو واقعٌ في الكفر وقد فعل هذا الذنب العظيم لكن المنافق الذي يظهر الإسلام ويظهر بمظهر الرجل الصالح وهو يبطن الكفر هذا أشد ذنباً وأعظم ولهذا جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار الذين يصرحون بالكفر فالمتحيل على الربا أشد من المعطي بالربا صراحةً أو أشد من الآخذ للربا صراحةً لأنه جمع بين المحظورين محظور الربا ومحظور التحيل والخداع لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنما الأعمال بالنيات وإنما لك امرئٍ ما نوى) وهذا الحديث يسد على المتحيلين جميع أنواع الحيل يقال لهم أنتم قصدتم هذا ولكم ما قصدتم إنما لكل امرئٍ ما نوى والعملية التي أشار إليها السائل هي موجودة بكثرة مع الأسف ومنتشرة وهي من ظهور الربا الذي ينذر بالهلاك والخطر على هذه الأمة ومن العجب أنه لو وجد حانات خمر وزنا لكان كل الناس ينكرونها لكن توجد هذه الحانات الربوية والناس ساكتون لا أحد ينكر ولا أحد يشمئز منها وذلك لأنها كثرت وكما قيل إذا كثر المساس قل الإحساس هذه الأكياس من الهيل كما قال الأخ تبقى في دكان التاجر مدة سنين أو شهوراً أو أسابيع أو ما شاء الله يأتي التاجر ويشتريها منه حسب ما اتفق مع الفقير على الربح لأنه يتفق أولاً مع الفقير على أني أدينك العشرة بإحدى عشرة أو خمسة عشر أو أكثر أو أقل ثم يذهب هذا التاجر وهذا المستدين إلى صاحب الدكان ويشتري التاجر منه السلعة بثمن يتفقان عليه ثم مع ذلك في الحال في نفس المجلس يبيعها على المستدين حسب ما اتفقا عليه من الربح أو من المرابحة ثم بعد ذلك يبيعها المستدين على صاحب الدكان بأنزل مما باعها صاحب الدكان به على التاجر ثم يأخذ الدراهم ويخرج بها في جيبه هذه هي القضية الألعوبة والمكر والخديعة وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة وسماها الصفقة الربوية الثلاثية هذا معنى ما سماها به لأنه غاب عني لفظه الآن ومع ذلك قال هذه حرامٌ بلا ريب وربا وكان يرحمه الله يحكي في مسألة التورق قولين لأهل العلم ثم يختار هو التحريم فدل ذلك على أن هذه المسألة ليست هي مسألة التورق التي يقول بعض الناس إن المشهور من مذهب الحنابلة جواز مسألة التورق ونحن نقول هكذا إن المشهور من مذهب الحنابلة جواز مسألة التورق لكن ليس مسألة التورق بهذه الحيلة الظاهرة البينة مسألة التورق كما قالها الفقهاء رحمهم الله إذا احتاج الإنسان إلى نقد واشترى ما يساوي مائة بمائة وعشرين إلى أجل وطبعاً اشتراه على الوجه السليم الصحيح وليس فيه العشرة بإحدى عشرة والعشرة بخمسة عشر ولا شيء أنا احتجت مثلاً إلى دراهم فأتيت إلى صاحب الدكان قلت بع علي هذا الشيء إلى زمن هو الآن يساوى مائة قلت له بمائة وعشرين وأخذته وذهبت بعته هذه هي مسألة التورق أما هذه المسألة فليست من التورق في شيء ولا تنطبق على التورق إطلاقاً ذلك لأنهما أولاً يتفقون على المرابحة فيكون التاجر باع على المستدين ما لا يملك بربح وهذا وإن لم يكن معيناً لكنه في ذمته ثانياً أنها يحصل فيها بيع الشيء قبل حوزته وقبضه ثالثاً يحصل فيها بيع الشيء قبل نقله عن محله وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) وكون بعض الناس يقول أنا قبضتها لأنني عددتها فمجرد العدد ليس قبضاً بلا شك ولا أحد يقول إنه قبض لأن القبض معناه أن يكون الشيء في قبضتك وفي حوزتك وأي شيء يكون على العدد أن تقبضه أي شيء يكون من القبض ولكن العلماء يقولون ما يحتاج إلى عدد فلا بد من عدده لقبضه بمعنى إنه لا يتم قبضه إلا بعده وهذا أمرٌ صحيح وأما مثلاً نقول مجرد إنسان يمسحه بيده أو يعده بإشارته يكون هذا قبضاً فهذا غير مسلم إطلاقاً ثم إن هذه الصفقة في الحقيقة غير مرادة لأن التاجر لا يقلب هذا الهيل ولا يسأل عن نوعه ولا يسأل عن عيبه وسلامته وربما يكون هذا قد فسد من طول الزمن وربما تكون الأرضة قد أكلته وهم لا يعلمون بل إني أعتقد أن صاحب الدكان لو أتى بأكياسٍ من الرمل وصفها وقال للناس هذه سكر لهؤلاء الذين يتاجرون بهذه الطريقة لأخذوها على أنها سكر بناءً على عادتهم أنهم لا يقلبون ولا ينظرون ولا يفعلون شيئاً ولقد حكى لي بعض الناس وهو ثقة أنه جاء ليستدين من شخص فذهبوا إلى صاحب دكان عنده بضاعة ولكن هذه البضاعة لا تساوي القدر الذي يريده المستدين فقال نبيع ثم ندبر لها شأناً فباعها صاحب الدكان على التاجر أولاً ثم باعها التاجر على الفقير ثانياً ثم باعها الفقير على صاحب الدكان ثالثاً ثم باعها صاحب الدكان مرةٌ ثانية على التاجر ثم التاجر على المستدين حتى أكملت ما يريده هذا المستدين.

فضيلة الشيخ: يعني تبايعوها أكثر من مرة؟

فأجاب رحمه الله تعالى: تبايعوها أكثر من مرة فقيمتها لا تساوي هذا القدر لكن لعبوا هذه اللعبة المستديرة حتى وصلوا إلى الدراهم التي يريدها المستدين وحدثني شخصٌ آخر أيضاً أنهم جاؤوا إلى صاحب الدكان وعنده سكر وكان السكر يساوي مائةً بسعره حاضر فقال أنا أريد كذا وكذا من الدراهم فقال هذا سكر لا يساوي نصف ما تريد قال إذاً نرفع سعره نرفع قيمته يعني حتى يصل إلى الحد الذي تريده فرفعوا السعر من مائة رفعوه حتى يكون قيمة هذا السكر القليل بالغةً ما يريد هذا المستدين ومثل هذه الحيل جميعاً انفتحت على الناس من الأم من الباب الأول الذي سأل عنه هذا السائل فلا شك عندنا في أن هذه المعاملة من فعلها واقع في الربا بل هو زائدٌ على الذين يرابون صراحةً بأنه يخادع الله ورسوله والذين آمنوا وما يخدع إلا نفسه وما يشعر وسوف يندم عندما يحضره أجله ولقد ذكر ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أن رجلاً حضره الموت فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله فجعل يقول العشرة إحدى عشرة العشرة إحدى عشرة يعني أنها ملكت قلبه والعياذ بالله ابتلي بها عند موته حتى نسي بها شهادة الحق فنحن ننصح إخواننا المسلمين الابتعاد عن هذه المعاملات المحرمة التي فيها خداع لله ورسوله والمؤمنين ونقول لهم إن ما صنعتم بهذه الطريقة أشد مما يصنعه الذين يرابون صراحةً في البنوك وغيرها فإنهم أهون منكم في ذلك لأنهم يفعلون الربا وهم يعتقدون أنه ربا ويجدون في نفوسهم خجلاً من الله عز وجل وانكساراً ويؤملون التوبة المهم إنهم يعرفون أنهم على خطأ وأنهم مستحقون للعقوبة فتجدهم يتوبون إلى الله ويرجعون إليه لكن مثل هؤلاء المتحيلين يرون أنهم على طريقةٍ سليمةٍ حلال فيبقون على ما هم عليه ولا يكادون يرجعون أبداً عن هذا الغي وهذا الضلال نسأل الله لنا ولهم السلامة ثم إنه حسب ما نعلم أن ما يؤخذ من الربح في البنوك أقل مما يأخذه هؤلاء من هؤلاء الفقراء والفقراء لا يدرون يظنون أن هذه الطريقة صحيحةً وسليمة يقولون كوننا نعمل عملاً لا إثم فيه ولو زاد علينا الربح أهون من كوننا نعمل عملاً محرماً ولكني أقول لهم إن هذه الطريقة أشد إثماً من طريقة البنوك لأنها كما أسلفنا رباً وخداع ولكن يبقى النظر أنه من سياسة التعليم الصحيح الذي كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أنه إذا سد الباب من طريقٍ محرم أحب أن يُفتح للناس بابٌ من طريقٍ مباح حتى لا يقفوا حيارى نقول في هذه الحالة الطريق السليم إلى ذلك أن الرجل إذا احتاج سلعةً معينة بنفسها مثل أن يحتاج إلى سيارة أو إلى مواد بناء أو إلى غيرها فليذهب إلى أهل المعارض أو الذين يبيعون هذه الأدوات وهذه الأعيان ويشتري منهم العيِّنة التي يريدها بنفسها بثمنٍ أكثر مؤجلةً وبهذا يسلم من الإثم فمثلاً إذا كان يحتاج إلى أسمنت مثلاً ذهب إلى أهل الأسمنت واشترى منهم ما يساوي عشرة آلاف باثنتي عشر ألفاً وأمر به وكذلك المواد الأخرى من حديد ومواد صحية وما أشبه ذلك وبهذا يسلم يقول أنا لا أريد مواد أو أعيان أنا أريد دراهم لأجل التزوج أو ما أشبه ذلك نقول لا حاجة بك إلى هذه المعاملة المحرمة فإما أن تشتري الأغراض التي للزواج بمثل ما أشرنا إليه في مواد البناء وإما أن تصبر حتى يغنيك الله لأن الله يقول (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله) ولا ينبغي للإنسان أن يستدين ليتزوج فهذا الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للنبي ولم يكن له بها حاجة قال (التمس ولو خاتماً من حديد ولم يجد فزوجه بما معه من القرآن) ولم يرشده إلى أن يستدين أو يستقرض من أحد بل إنما زوجه بما معه من القرآن فالمهم أن مثل هذا أقصد الحاجة إلى الزواج لا ينبغي للإنسان أن يستبيح لنفسه هذه الطريقة المحرمة من أجله.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>