رسالة وردتنا من شخص من اليمن وهو مقيم بالسعودية في الدمام يقول المرسل محمد بن علي الجبلي: في مدينة عمران باليمن امرأة تدعى السندية لها عشرون عاما ً تسلب أموال الناس، ويقصدها الكثير من الجهال يسألونها عن المغتربين ما بهم ومتى يأتون؟ ويقصدها المرضى للشفاء. وإذا حضروا عندها جاءت بغطاء ووضعته على نفسها ثم تقول بصوت متغير: فلان يأتي بعد كذا يوم أو شهر أو لا يأتي، والمريض فلان يشفى وهذا حرز له أو لا يفيد معه الحرز، وتخبر النساء عن ما يكنه لهن الأزواج، حتى إن زوجتي ذهبت لها وقالت لها: إن زوجك يفكر في الزواج فأرسلت لي زوجتي ورقة تطلب طلاقها، فأرسلتها لها وفيها الخلوع بالثلاث هل هذا الطلاق صحيح أم باطل؟ علماً أن له ستة شهور ولا أعلم ما السبب. وهذه المرأة تدعي أن معها أشرافاً يخبرونها، وكثيراً ما تقول للرجال: إن لزوجاتكم رجالاً غيركم لتوقع بين الزوجات وأزواجهن. فهل في الجن أشراف يعلمون الغيب؟ أفيدونا بدقة عن هذا الموضوع.
فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المرأة من الكهان؛ لأنها تدعي أنها تعلم عن المستقبل، وكل من يدعي أنه يعلم المستقبل فإنه كاهن كاذب لا يجوز الإتيان إليه ولا يجوز تصديقه، بل إن تصديقه تكذيب للقرآن، فإن الله تعالى يقول:(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . والغيب ما غاب عن الإنسان من الأمور المستقبلة فلا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذه المرأة التي تدعيه هي أيضاً مكذبةٌ للقرآن، فيجب على ولاة الأمور أن يمنعوا مثل هذه الأمور في بلادهم، حتى لا يوقعوا الناس فيما يخالف عقيدتهم وفيما يكذب كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما ما تدعيه هذه المرأة من علم الغيب فإنه لا يجوز تصديقه أبداً، وإذا قدر أن ما تخبر به يقع منه شيء فإنما ذلك عن مصادفة أو عن أمر استمع من السماع وتضيف هي إليه عدة كذبات لتموه على باطلها. وأما بالنسبة لما تدعيه من مكالمة الأشراف من الجن لها فهذا أيضاً دعوى كاذبة؛ لأن الكاهن بجميع ما يقول وجميع ما يذكر من مؤثرات لكهانته يجب تكذيبه، والجن لا يعلم الغيب بنص القرآن، يقول الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ "يعني: سليمان" مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ "يعني: عصاه" فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) . فلا أحد يعلم الغيب لا من الجن ولا من الملائكة ولا من الإنس:(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . وقال سبحانه وتعالى:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) . وأما بالنسبة لقوله: إنه خالع زوجته ثلاثاً فهذه مسألة الطلاق الثلاث، وإذا كان يريد الرجوع إلى زوجته فإنه موضع خلاف بين أهل العلم، هل له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على هذه المرأة أو ليس له أن يراجعها؟ والراجح أنه يجوز له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على هذه الطلقة، فإن في صحيح مسلم حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر قال: كان الطلاق الثلاث واحدةً، فلما تتابع الناس في هذا قال عمر رضي الله عنه: أرى الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ وهذا نص صريح بأن إمضاء الثلاث على البينونة أمر اجتهادي من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكما أن هذا مقتضى النص فهو أيضاً مقتضى النظر، فإن الطلاق الثلاث أمره إلى الشرع لا إلى الإنسان. والإنسان لو قال: أستغفر الله ثلاثاً سبحان الله ثلاثاً لو قال دبر الصلاة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم قال بعده: ثلاثاً وثلاثين ما كتب له ثلاث وثلاثون. فإذا كان هذا لا يحصل في الأمور المرغوبة المحبوبة إلى الله عز وجل- وهو: الإثابة على ذكره وطاعته- فكيف يكون في الأمور التي غاية ما هي أنها من الأمور المباحة كالطلاق؟ فإن النظر والقياس الصحيح يقتضي أن طلاق الثلاثة واحدة، فيكون مؤيداً بالنص وبالنظر. كما أن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ) فطلقوهن لعدتهن، والطلاق للعدة لا يكون إلا والمرأة عند زوجها أي غير مطلقة؛ لأنها إذا طلقت بعد أن طلقت في نفس العدة لم تكن مطلقةً للعدة. ولهذا يقول العلماء رحمهم الله: لو أن الرجل طلق امرأته اليوم وبعد أن حاضت مرتين أردفها بطلقةٍ ثانية فإنها لا تستأنف العدة بهذه الطلقة الثانية. دل ذلك على أنها طلقة لغير العدة، وإذا كانت طلقة لغير العدة صارت غير مأمور بها؛ لأن الله يقول (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ) . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن الطلاق الثلاث ولو بكلماتٍ متفرقة لا يقع إلا واحدة فقط، إلا إذا تخلله رجعة أو عقد نكاح جديد.