المستمعة أم عارف تقول في هذه الرسالة إننا قبائل ولنا عادات في العزاء وهي إذا مات الميت عند أحدٍ منا أو عند أقاربنا يكون العزاء عنده ثلاث أيام بلياليهن دون أن يكون في هذا أي كلفة ولا تقدم القهوة ولكن يحضرون الناس عند صاحب المصاب من أقاربه يدومون ثلاثة أيام متواصلة وأنا علمت من برنامجكم أن الاجتماع هو نوع من النياحة فهل في ذهابي إلى التعزية حرج نرجو بهذا إفادة جزاكم الله خيرا؟
فأجاب رحمه الله تعالى: لا ريب أن موت الحبيب مصيبة يصاب بها العبد كما قال الله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) وهذه المصيبة يجب عليه أن يقابلها بالصبر وينبغي له أن يحتسب أجرها لله عز وجل فإن هذه المصائب مكفرةٌ للذنوب وإذا صبر الإنسان عليها أثيب ثواباً آخر ثواب الصابرين فليصبر وليحتسب وليقل ما أرشده الله إليه (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وما جاءت به السنة (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها) فإن الإنسان إذا فعل ذلك بإيمان آجره الله عليها وأخلف له خيراً منها كما جاء ذلك في حديث أم سلمة رضي الله عنها حين مات زوجها أبو سلمة وكان من أحب الناس إليها فقالت اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها وكانت تقول: مَن خيرٌ من أبي سلمة؟! يعني تتوقع من هذا الذي يكون خيراً منه فلما انتهت عدتها خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان خيراً لها من أبي سلمة ثم إن المصاب ينبغي لإخوانه المسلمين إذا رأوا مصاباً متأثراً بالمصيبة أن يفعلوا ما يقويه على مكابدة هذه المصيبة وتحملها فيعزونه بما يكون عزاءً له وتقويةً له وأحسن ما يعزى به ما ثبت به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما إحدى بناته أرسلت له تخبره أن صبياً لها كان منهكاً أو كان في النزع فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أرسلته (مرها فلتصبر ولتحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى) هذه الكلمات العظيمة النيرة إذا تأملها الإنسان صبر واحتسب وعلم أنه لا راد لقضاء الله وأن الأمر من الله إليه وأن الحزن والغم لا يأتيان بخير بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) يعني يشق عليه ذلك ويتألم ويهتم وليس هذا عذاب عقوبة لأنه (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ولأن البكاء الذي يحصل للإنسان بمجرد الطبيعة وليس يتكلفه ليس فيه شيء فلا يعاقب عليه لا الباكي ولا الميت لكن الميت يحس بهذا البكاء ويتألم ويتعذب وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم (السفر قطعةٌ من العذاب) ليس معنى أن السفر قطعةٌ من العقوبة المهم أنه ينبغي للمسلم إذا رأى أخاه متأثراً أن يعزيه بالكلمات التي تقوي قلبه وتعينه على تحمل هذه المصيبة وليس المراد من العزاء إقامة المآتم والاجتماع بالناس يَفِدون من كل وجه وربما يصنعون أطعمة وربما يوقدون اللمبات الكثيرة وربما يضربون الخيام حول البيت وما أشبه ذلك من الأمور المنكرة التي ليس فيها إلا عنوان الاحتجاج على قدر الله عز وجل وعدم الرضا بقضائه أو إظهار الفرح والسرور بفقد هذا الميت لأن مثل هذا الفعل ينبيء بأحد أمرين إما السخط على قضاء الله وقدره ومقابلة ذلك بمثل هذه الأمور وإما أن الإنسان يفرح بموته ويجعل هذا كالنزهة لكن الغالب القصد الأول أن هذا إظهار السخط والألم والحزن وما أشبه ذلك وقد كان السلف يعدون الاجتماع إلى أهل الميت من النياحة فالواجب الحذر من هذا الشيء وحفظ الوقت وحفظ المال وحفظ التعب وإتعاب الناس وإزالة هذه الأشياء المنكرة ثم إن بعض الناس يهدي إلى أهل الميت أطعمة وغنماً وما أشبه ذلك يتشبثون بقول الرسول عليه الصلاة والسلام (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) وهذا في الحقيقة لا مستند لهم فيه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لقد أتاهم ما يشغلهم) فآل جعفر لما أتاهم خبر موته حزنوا لذلك ولم يكن لديهم التفرغ لصناعة الطعام فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يصنع لهم طعام ونحن الآن في وقتنا ولله الحمد لا يشغلنا مثل هذا الشيء عن إصلاح الطعام لأن إصلاح الطعام ميسر وسهل تقوم به الخدم إن كان هناك خادم أو يشترى من أدنى مكانٍ من المطاعم وليس في ذلك مشقة أبداً ثم إن الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر أن يصنع لآل جعفر طعاماً وليس أن يهدى إليهم الذبائح والغنم وما أشبه ذلك فالذي أدعوا إليه إخواني المسلمين أن يوفروا على أنفسهم التعب وإضاعة الوقت وإضاعة المال وأن يكفوا عن هذا الأمر لأنه ليس لهم فيه خير بل هم إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة