وهكذا تزايدوا وكثروا فأصبح الذين يظلون فى آخر المسجد النبوى من البررة الكرام لا ينالون متعة رؤية وجه النبى الجميل ويتمتعون بصوت النبى صلى الله عليه وسلم ويحرمون من فوائد فرائد ألفاظ حبيب الإله وذلك لشدة الزحام فصنعوا منبرا جديدا فصعد النبى صلى الله عليه وسلم فوق المنبر وجلس عليه، عندئذ صاح العمود صيحة حنين حينا وأن أنينا آخر حتى كاد أن ينشق قطعتين وسمع أهل المجلس صيحة الجزع الأليمة بآذانهم، ونزل النبى صلى الله عليه وسلم من المنبر رحمة بحال العمود الحزين وضمه بصدره وعانقه بكل رقة وشفقة. ومن هنا أخذ الجزع يبكى ويئن كصبى صغير وفى آخر الأمر سكن من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له كما يسكت الطفل عندما يسليه أبوه وأمه وانقطع عن الصيحة والأنين وبناء على خطب الرسول صلى الله عليه وسلم فى أصحابه الكرام قال يا أمتى وأصحابى! قد أن هذا العمود وبكى لأنه تأثر من مفارقته ما سمعه من الذكر والتسبيح الخاصين بالأوصاف الإلهية. انتهى.
هذه المعجزة من المسائل المشهورة والمصدقة بين الأئمة. قد حكى مؤلف المناقب الشافعية ابن أبى حاتم نقلا عن والده عن عمرو بن سوّاد عن والإمام الشافعى أن الإمام الشافعى قال:«إن النبى الأكرم قد أعطى الله له من المعجزات ما لم ينعم به على أحد من الأنبياء» وحكى ذلك فى صورة مفصلة. يقول عمرو بن سواد:«كنت قد قلت أن عيسى-عليه السلام-قد أعطى معجزة إحياء الموتى» قال الإمام الجليل «وقد أنعم الله على النبى صلى الله عليه وسلم بمعجزة حنين الجزع حتى سمع صوت الجذع، وهذا أكبر من معجزة إحياء الموتى»(١).
قد روى بكاء الجزع وأنينه وصيحته بسبب فراقه الأليم للنبى صلى الله عليه وسلم، سواء أكان المؤرخون أو العلماء الذين شغلوا أوقاتهم من أئمة الحديث بنقل الأخبار النبوية وإخراجها، يعنى أن الأصحاب الكرام-رضى الله عنهم-الذين حضروا أحداث القصة المشروحة فى يوم وقوعها وسمعوا بآذانهم حديث حنين الجزع كأبناء البشر ونطقه وهو يعرض حاله للنبى صلى الله عليه وسلم وأقاموا على ذلك بينة عادلة إلا أن زمرة