وفى النهاية نفذ قضاء الله-سبحانه وتعالى-القهار ولم تفد جميع مساعى أهل مأرب وجهودهم وما اتخذوه من الاحتياطات ليحولوا دون انهيار السد، فأغرقت مياه السيول التى تجمعت خلف سد مأرب بلاد سبأ ومحتها من الوجود، وذلك منذ أربعمائة عام قبل البعثة المحمدية فى عهد عمرو مزيقيا من حكام اليمن، وتحقق ما تنبّأ وأخبر به الأنبياء المشار إليهم. وضاعت معيشتهم المرفهة وأصبحت أحوالهم قصصا تدور على ألسنة الأنام.
لو كان أهل مأرب اطلعوا على الكارثة التى ستصيبهم لعملوا على الأقل على إنقاذ أرواحهم. إلا أنه فى ليلة من الليالى ظهرت فئران أكبر من القطط دون علم أحد وشقت القطط التى رباها الأهالى للدفاع عن القضاء المفاجئ الذى سيقع فجأة، ونقبت أسس السد المتين وهدمته بعون السيول فى النهاية. وقد تجلت قدرة الله-سبحانه وتعالى-بصفة المنتقم فغرقت جميع بلاد سبأ بتدفق مياه سيل العرم وهجومها عليها. وتحولت أربعة آلاف وسبعمائة من القرى والمدن فى لمح البصر إلى خرائب وأطلال. ولم يبق فى هذه الحدائق والبساتين إلا خمط وأثل وشئ من سدر قليل. وبعض أشجار ونباتات غير صالحة لأكل محاصيلها.
[ملوك الغساسنة]
وقد تشتت أهالى بلاد اليمن الجسيمة بعد سيل العرم فى البلاد الأخرى. وقد نزلت قبيلة بنوا أزد من نسل كهلان بن سبأ بجانب الماء الذى يعرف باسم غسان فى نواحى الشام، واشتهرت باسم هذا الماء وقد عمل هؤلاء فى فترة من الفترات على الاستيلاء على البلاد الشامية كلها حيث أسسوا حكومة ملوك الغساسنة.
كما أن بعض أفراد هذه القبيلة هاجر إلى ديار بكر حيث أسسوا المملكة الخاصة بملوك كندة أيضا وكان ابتداء ظهورهم قبل ظهور نور الإسلام بخمسمائة عام، وكانت دار ملكهم معظم سواد الشام. ووصل عدد ملوكهم إلى واحد وثلاثين ملكا، ودامت مدة سلطتهم ستمائة عام. وكانوا كلهم تابعين لقياصرة الروم. وقد زادت قوتهم تحت هذه التبعية إلا أن ملكهم أواخر حياتهم تعرض للضعف والوهن، وانقرضت قوتهم ودالت دولتهم فى العام السادس عشر من الهجرة النبوية.