وعند ما بلغ قصى بن كلاب سن التمييز وأصبح قادرا على التفوق بين الحسن والردئ-إذ نمت قوة إدراكه-نشبت نار النزاع واشتد الاضطراب بين القبائل واشتعلت الفتنة بين جماعة آل ربيعة التى ينتمى إليها زوج أمه اضطرب مزاجه وسلبت منه راحته وطمأنينته، ذلك لأنه لم يكن من قبيلة ربيعة رجل يعرف أن كلاب بن مرة هو والد قصى سوى ربيعة، ولهذا كان أرباب السوء من القبيلة يؤلمونه ويعيرونه بأقوال مثل: إن والدك غير معلوم لنا وما ألجأك إلى قبيلتنا سوى انتسابك إلى قبيلة مجهولة لا اسم لها ولا شهرة فلو كان قومك معروفين لك لكنت تحتمى بهم تستنصرهم لتنجو من شرنا.
وقد التوى ابن كلاب من هذا الأمر وانزعج من نباح كلاب بنى ربيعة وقص ما جرى بالتفصيل على أمه فاطمة وشكا لها باكيا متألما وأبدى ما أصيب به من جرح فى نفسه.
وكانت فاطمة أم قصى من أعقل النساء فقالت لابنها لكى تطفئ نار حزنه وتسرى عنه وكأنها تصب عليه ماء الحياة: يا بنى أنت من الصلب الشريف لكلاب بن مرة فأنت أكرم من أبناء آل ربيعة ومن كل الوجوه وأنت أشرف نسبا وأعظم حسبا من كل قبائل العرب، إن قومك وقبيلتك يقيمون فى نواحى مكة المعظمة ويسكنون منذ زمن طويل حول حرم الله.
وهكذا أخبرته أنه ينتسب إلى قبيلة كبيرة من أشرف القبائل العربية.
وعند ما سمع «قصى» هذا الكلام من أمه أراد أن يلحق بقبيلته ويذهب إلى مكة المكرمة وعزم على ألا يعود إلى أرض قضاعة بعد ذلك أبدا فنصحته أمه قائلة: يا بنى لا تتعجل وانتظر إلى أن يحل الشهر الحرام واذهب آنذاك-مع قوافل الحجاج العرب فأنا لا أحبذ سفرك بمفردك ولما حان وقت الحج ذهب إلى منطقة الحجاز برفقة حجاج قبيلة قضاعة وبعد انتهاء الحج أقام خيمة حول كعبة الله وأقام فيها.
وكان قصى حازما بارعا جلدا، وبعد فترة من إقامته فى مكة عرف أهلها شرف حسبه وفضل نسبه فأكرموه كرما شديدا.