الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانًا، فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله ﷿.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا.
ولو كانوا دائمًا مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً؛ فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين، غالبين، قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سُبْحَانَهُ يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سُبْحَانَهُ على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها؛ كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد،