وعلَّة هذا النهي بيَّنها ابن القيم ﵀، فقال:«وحظر الله على عباده المَنَّ بالصنيعة، واختصَّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّ مَنَّ العبادِ تكديرٌ وتعييرٌ، ومَنُّ الله إفضالٌ وتذكيرٌ، وأيضًا: فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة.
وأيضًا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يَمُنُّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
وأيضًا فالمِنَّة أن يشهد المعطي أنه رب الفضل والإنعام، وأنه ولي النعمة ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله.
وأيضًا فالمان بعطائه يشهد نفسَه مترفعًا على الآخذ، مُستعليًا عليه، غنيًّا عنه عزيزًا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضًا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه، ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وادعى أن حقه في قلبه، ومن هنا- والله أعلم- بطلت صدقته بالمن؛ فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ، والمعاملة عنده، فمنَّ عليه بما أعطاه؛ أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له» (١).
واتصاف المخلوق بالمنة على نوعين أوضحهما ابن القيم ﵀ أيضًا- في كلامه عن المنفقين وأنواعهم، حيث قال: «فالمن نوعان؛ أحدهما: من بقلبه، من غير أن يصرح به في لسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة، فهو من
(١) طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: ٣٦٦).