دفع قدر الله بقدره، وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله، هكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض، فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإذا غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمِر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر.
الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني: الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته؛ فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي: أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم (الحكيم)ﷻ، وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته