لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًّا حميدًا ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سُبْحَانَهُ لذاته لا لأمر أوجب غناه، وفقر العباد إلى ربهم فقران:
الأول: فقر اضطراري، وهو فقر عام، لا خروج لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا، ومصنوعًا.
الفقر الثاني: فقر اختياري، وهو فقر الخشية والطاعة وذلة العبودية، وهو نتيجة علمين شريفين؛ أحدهما: معرفة العبد لربه، والثاني: معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه، وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة، عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام، عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومَن عرف ربه بالعلم التام والحكمة التامة، عرف نفسه بالجهل.
فإن الله تَعَالَى قد أخرج العبد من بطن أمه ضعيفًا مسكينًا، جاهلًا، كما قال تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨]،
وسخر له ما في البر والبحر مما يصلحه ويعينه على أمر دينه ودنياه، فلما شعر بأن له قدرة على السعي، واستطاعة على التدبير ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادعى لنفسه ملكًا مع الله سُبْحَانَهُ، ورأى نفسه بغير هذا الضعف