للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول الذي كان عليه، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة؛ حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخص غيره، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي (أن النبي بَزَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللهُ: ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدلْتُكَ، مَشيتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ) (١).

ومن هنا خُذِل مَن خُذِل، ووُفِّقَ مَن وُفِّقَ، فحُجِبَ المخذول عن حقيقته ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا؛ فحقت عليه الشقوة، قال تَعَالَى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٦ - ٧]، وقال تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل ٥ - ١٠]، فأكملُ الخلق أكملُهم عبودية، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين» (٢).

فالله غني عن العلائق والروابط والصلات، فصلته بخلقه صلة رب رزاق لعباد محتاجين، وصلته بهم صلة عطاء وتفضل بعد خلق وإيجاد، أما صلة الخلق به سُبْحَانَهُ فصلة افتقار لرزقه وانتفاع بما عنده، فالعبد يدعو والله يجيب، والخلق يحتاجون والرزاق يعطيهم، والعباد يفتقرون والغني


(١) أخرجه أحمد، رقم الحديث: (١٨١٢٢)، وابن ماجه، رقم الحديث: (٢٧٠٧)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث: (١١٤٣).
(٢) طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: ٨ - ١٠) بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>