ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقه وأمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية، وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها» (١).
وعليه فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب، ويعلمون أنها صادرة عن الخلاق، وأن الله سُبْحَانَهُ تارة ينسب الفعل إليه؛ لأنه الخالق بتقدير وقدرة، وتارة ينسب الفعل إلى عباده عند دعوتهم إلى العمل في الأسباب بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة، فمرة يقول سُبْحَانَهُ في بيان التقدير والقدرة: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣، ٦٤]، وقال أيضًا: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: ٢٤ - ٣٢]، فنفى عن الناس خلقهم لأفعالهم وتأثير الأسباب بمفردها في أرزاقهم، وأثبت لنفسه تصريف الأسباب وانفراده بخلقها وتقليبها؛ لأنه الخالق الخلاق على الحقيقة، فهو الذي علم وكتب، وشاء وخلق، قدر كل شيء بعلمه، وكتبه في أم الكتاب بقلمه، وأمضاه بمشيئته، وخلقه بقدرته.
ثم أمر الناس أن يأخذوا بالأسباب التي خلقها وأحكم ابتلاءهم بها، فقال: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ [يوسف: ٤٧]، وقال تَعَالَى أيضا: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: ٢٩]، فسماهم زرَّاعًا، وقال: تزرعون، وسماهم كفارًا؛ لأنهم يضعون