للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت؟! ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه.

فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب، وخروجك منه، لذهب بك العجب كل مذهب! فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟! وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليمًا، إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا، لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال! أحوج خلق الله، وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءك على صدرها، كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له، فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة، فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسد طرقها، يسوقها إليك في طرق لا يهتدي إليها الطواف، ولا يسلكها الرجال.

فمن رققه لك وصفَّاه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحار المؤذي، ولا بالبارد الردي، ولا المر ولا المالح، ولا الكريه الرائحة، بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة، خلاف ما كان في البطن، فوافاك في أشد أوقات الحاجة اليه على حين ظمأ شديد، وجوع مفرط، جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالإداوة قد تدلى إليك، وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة، التي هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق

<<  <  ج: ص:  >  >>