باللبن، ولم يضيقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك.
فمن عطف عليك قلب الأم، ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة، حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها، فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها، على عدد الأنفس منقادةً إليك بغير قائد ولا سائق، إلا قائد الرحمة وسائق الحنان، تود لو أن كل ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تزاد في حياتك.
فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟! حتى إذا قوي بدنك واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتد به عظمك، ويقوى عليه لحمك، وضع في فيك آلة القطع والطحن، فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام، وطواحين تطحنه بها، فمن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمةً بأمك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمةً بك، وإحسانًا إليك، ولطفًا بك.
فلو أنك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أمك بك، ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة، التي لا تسيغها إلا بعد تقطيعها وطحنها، وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زيد لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ، فتطيق نهش اللحم وقطع الخبز وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوةً زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الأضراس، فمن الذي ساعدك بهذه الآلات وأنجدك بها ومكنك بها من ضروب الغذاء» (١).
تميزه بالعقل، وتعليمه للعلم بعد أن خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا،