وكان في تزوج أبي بالشريفة البر التام بنا، إذ ألحقنا بنسب النبي صلى الله عليه وسلّم وسيرنا من ذريته إجماعا، وشرفاء عند أكثر العلماء، كما أفتى به ناصر الدين المشدالي، وغيره ممن هو مثله في العلم، وكمل بره بأن علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، واتفق أنه قرأ في بعض كتب الرقائق: أن رجلا كان يسأله جاره أن يزوجه إحدى بناته، فيقول له:
لا حاجة لي بالتزويج، فبينما هو نائم إذ رأى كأن القيامة قد قامت، وأن الناس في شدة وحر عظيم وعطش زائد، وكان بينهم ولدان معهم أكواز يتخللون الناس، قال فقلت لأحدهم: يا ولدي اسقني فإني عطشان، فقال: اذهب، فما لك فينا واحد-قال:
فاستيقظت وبي رجفة عظيمة، فأتيت باب جاري فدفعته وقلت له: زوجني إحدى بناتك الآن، فلي قصة عجيبة، فزوجه، ولم يأت عليه الصباح إلا وهو مع زوجته، فلما قرأها الولد كان سببا لإجابة الجماعة الذين عرضوا عليه التزويج، وكان بناؤه بها ليلة الاثنين سادس عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة، فولدت له خمسة ذكور، توفي منهم في حياته اثنان، وكان يقول: عندي مسرة بمن قدمته أكثر منها بكم رجاء لما وقع في الحكاية السابقة، وكنت أول أولاده، ولم يصده العيال عن شيء من الأوراد والأفعال الصالحة التي كان عليها، بل كان لا يزال مشغولا بنفسه وبذكره وقراءته واشتغاله بكتب العلم، وفي بيته عيال كثيرون ليس بينه وبينهم إلا المصاهرة فقط، ومع ذلك فلم يكن يهمه شأنهم ولا شأن أولاده، بل قدم اشتغاله بالآخرة على كل شيء حتى إنه خلي عن التعليقات، وكلما نظرت إلى حالي وسعة مسكني وضيق خلقي وقلة صبري مع ما رأيته من ضيق مسكنه وسعة خلقه وطول صبره صغرت عندي نفسي، وأيست من خيري وأنى لي بحسن أخلاقه وحفظ لسانه، ولقد حكى الشيخ محمد والشيخ عمر الخرازين: أن والدي لما حج معهما وكانوا رفاقا كثيرة مع عدة جمالين يتحدثون عن سيرة ركابهم معهم فقال لهم جمال والدي: يا جماعة أما رفيقي فأخرس، لم يتكلم منذ حملته بكلمة، فقال له رفيقه: بلى والله قد سمعته يوما يتكلم مع أصحابه، وكانت هذه طريقته سفرا وحضرا لا يراه أحد جالسا بطريق ولا في حلقة فضول، ولا يتكلم إلا جوابا، وإن جاوب لم يفتح للفضول بابا … كان القاضي فخر الدين بن مسكين (الفقيه الشافعي) إذا لقيني يقبل عليّ ويسلم ويقول: رحم الله والده ما كان أحسنه وأكثر أدبه وخيره، اتفقت لي معه قضية، وهي أني كنت إذا صليت الصبح أجلس في مصلاّي حتى تطلع الشمس وأصلي الضحى ثم أنصرف، وكان في الروضة جماعة من الأشياخ المباركين، قال: وكنت أرتقب بصلاتي ارتفاع الشمس والناس يرقبون قيام أبي عبد الله ويقومون لقيامه، وكان يقوم إذا وصلت في الحائط الغربي إلى أن فتحت الشبابيك الصغار، فاجتمعت به وأنا به جاهل فقلت له: رأيتك تقوم لصلاة الضحى قبل وقتها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عنها حتى ترتفع الشمس وتبيض، وهذا وقت كراهة وكثرت عليه من الأدلة،