القبر والمنبر» رد فيه على الريمي مصنفه المسترشد، على أن الروضة هي المسجد و «كفاية العابد» ومسألة في مسمى العموم، وأن العام المخصص حقيقة، وانتخب من صفوة الصفوة -لابن الجوزي نحو أربع كراريس، جمع فيها لبها، وأردفه بنحو كراس من كلام القوم، وسماه «المنتخب» لا يستغني عنه من عنده ذوق، ولديه توق، وأوقاته مشحونة بالعبادة والمطالعة، والإقراء والتلاوة، مع المراقبة والتوجيه، وبذل النصيحة، واتباع الكتاب والسنة، ولا يشتغل بأحد بين العشاءين، ولا بعد الصبح إلى ارتفاع الشمس، وحينئذ يصلي ركعتي الإشراق شكرا للصباح الجديد، وتحية له، ثم ركعتي الكفاية، ثم ركعتي الاستخارة في جميع ما يعرض له، ثم يجلس للإقراء إلى نصف ما بين الصبح والظهر، ويصلي حينئذ الضحى اثنتي عشرة ركعة، ثم يتوجه إلى منزله، فيشتغل بالمطالعة إلى قبيل الظهر، فينام نومة خفيفة جدا، ثم يقوم للصلاة، ويقرأ أيضا بين الظهر والعصر، وبعد العصر ساعة جيدة، كل ذلك بالمسجد، ويكون آخر الناس خروجا منه بعد العشاء، ويديم التهجد، وكان أولا يختم في الجمعة، ثم صار يختم في كل ثلاثة أيام، ويصوم البيض والاثنين والخميس والأحد والأربعاء، القصد صيام داود، كل ذلك، مع التقلل في المأكل والمشرب، بل ومن الدنيا وزهده وتقنعه، وسمع بعضهم يحض آخر على شرب دواء لشهوة الأكل، فتعجب، وقال:
إنما المطلوب قلته، فكيف تتداوى لكثرته؟ ومن نظمه:
حدا الحادي بنا نحو المقابر … فمالت نحوه جمع العشائر
وظلت خوفها رهنا وأمست … إلى يوم التنادي والمعاذر
وقامت بعد ذلك مسرعات … إلى درك الجحيم أو الحظائر
فيا لك من دواة مفظعات … أيهنأ العيش مع هذي الدوائر؟
وكان يقول-وهو قابض على لحيته-واعجبا لمن يبلغ الثلاثين! كيف يهنأ له العيش؟ يريد نفسه، وكتب بخطه: عقدت مع الله تعالى أن لا أكذب متعمدا، إلا فيما فيه صلاح في الدين، وأن لا أسأل غير الله تعالى شيئا من الدنيا لنفسي، وأن أرضى بحكم الله وأن أحتمل الأذى لأجله، إلا في معصية، وأن أزهد في الدنيا بأن أترك السعي في طلبها، ولا آخذ منها إلا ما يكفيني، وأن لا أطلب بعلمي وعملي غير وجه الله ورضاه، قال: عاهدته على ترك جميع المعاصي الباطنة والظاهرة، ومنه التوفيق لذلك، وبالجملة: فكان فردا في معناه، ولم يترك الحج إلا سنة وفاته، لاشتغاله بالمرض الذي يعجز معه عنه، وكان ابتداء مرضه في العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وستين، وتوفي في نصف ليلة الأحد رابع عشر المحرم من التي تليها، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة ودفن بالبقيع تحت قدمي والديه، شمالي قبر سيدنا ابراهيم بن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهد جنازته جميع أهل المدينة، وتأسفوا بأجمعهم عليه،