لم أعالجه لمجاورتي إياه بالدخول عليه، لما كنت أدري ما يفعل به، فبادر وذهب إلى الأمير، وقال: إن مات ابن مرزوق، استغنيت الدهر، وكل ماله عند ابن فرحون، فبلغته ذلك وأخبرته، فقال لي: ووصل إلى هذا الحد؟ أنا إن شاء الله أريك فيه، فو الله لم تمر عليه إلا أقل من جمعة حتى حمل إلى المقبرة بعد عذاب شديد تاله في مرضه، وذلك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة. وكان الشيخ لا يأكل الرطب، ولا الفاكهة، ولا العنب ولا البطيخ، ولا اللحم ولا السمن، حتى نحل ورق، وعزمت عليه بظاهر الشرع، فلم يتحول، بل كان صائم الدهر، قائم الليل، لا يفتر عن ذكر الله، ويتفقد الفقراء في بيوتهم، ويعالج الطرحاء في مكانهم، ويطوف على المرضى بالمدينة فيتفقدهم، ويطلب منا المساعدة حتى ذلك، ولا يزال متبسما، يسأل عن الصغير قبل الكبير، ويأتي إلى بيوت أصحابه، ويدعو لصغارهم، ولي منه أوفر نصيب، حتى أني لو قلت: لم أر الخير إلا معه، ولا السعد إلا في أيامه: كنت صادقا، ويتفقد نفسه إذا وقع في شيء من الهم، حتى إنه جاء يوما من المسجد، وبيده قطعة من حديد تسوي فلسا، أو لا تسوي، فنادى: ولدي أحمد، فأعطاه إياها ليلعب بها، ثم خرج عنا، فلما دخل المسجد رجع بسرعة، فقال: هاتوا تلك الحديدة، فأتيناه بها، ثم جاءنا بعد على عادته، فسألته عن حكايتها؟، فقال: لما رجعت إلى المسجد فقدت سكينا كان معي في المحفظة، فتفقدت نفسي، وتفكرت فيما عملت حتى عوقبت في السكين، فلم أجد إلا تلك الحديدة، فرددتها إلى موضعها، فوجدت السكين، ومقامه أعلى من هذا، واتفق أنه مرض في بيتي مرضا شديدا-بحيث أيس من نفسه فيه-فدخلت عليه يوما، وولدي أحمد عنده، وكان صغيرا، فأسمعه يقول: يا ولدي أحمد، سأقوم من هذا المرض وأتعافي، ثم سمعته يقول: فيها البركة يا ولدي، فقلت له: ما يقول لك؟ وما معنى كلامه؟ قال: فقلت له: كذا وكذا، فقال لي-أشار بيده-أربع، فتأولتها أربع سنين، فكان كذلك، مات في الأربعة بمكة، رحمه الله، وكان ليلة واقفا يصلي فوق سطح المسجد، وبإزائه نساء في عرس، فضربوا الدفوف والمعازف والرباب، وأنواع الطرب بحذائه، بحيث لم يدر ما يصلي، فنزل كما رأيته إلى أسفل البيت، فلم يكن إلا قليلا وطلع لمكانه، وسكن ذلك اللعب واللهو، فسألت عن سبب سكوتهم، فقالوا: بينا نحن في ذلك الحال إذ وقعت عروسنا من الدرجة فعطبت رجلها، فعلمت أن ذلك ببركة خاطره، إذ كانوا على أنواع من المعاصي والملاهي، نفعنا الله به وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، فقد انتفعنا بصلاحه، وبخاطره، وبخدمته، وبولده من بعده، يعني كما تقدم. وقال ابن صالح: الشيخ صالح الفقيه العالم العابد، المنقطع إلى الحرمين، سكن المدينة سنين في عشر الأربعين وسبعمائة، وكان معه ابنه محمد مدة بها، ثم سافر إلى المغرب، وانتفع به الناس هناك، وصار خطيبا، وارتفع قدره عند السلاطين بدعاء والده وبركته، واستمر الأب مقيما بالمدينة على قدم العبادة والاجتهاد في