أربه، فكتب إلى السلطان شفاعة في أن يولي عليهم الأمير عطية، وأنه أوفق وأصلح للمدينة والرعية، وسافر نعير بالشفاعة إلى السلطان، فلما وصل مصر: أمر بحبسه شهرا من الزمان، ثم طلبه وخلع عليه، وكتب تقليد الأمير عطية بالولاية، وجهز صحبته إليه، فحضر نعير في ثامن ربيع الآخر سنة ستين بالخلعة والتقليد، وحضر الأمير عطية ولبسها، وباشر الولاية بالطلع السعيد، والرأي السديد والسريرة المحمودة والسيرة الحميدة، فلم يزل ولايته ساعيا في مصالح المسلمين، راعيا للبلاد بالتطمين والتأمين، داعيا إلى الله بما يجب على كل مسلم التأمين، سائسا للملك سياسة مقطوعة العيوب، ماشيا بسيرة أحيى بها شيئا من سير بني أيوب، شيمته العبادة والصلاح، وطريقته التوجه إلى الله بالغدو والرواح، والأمسيات والصباح، مع الكراهة في النهي والأمر والنزاهة عن القبض على الجمر، من تنكيد أو تشويش على زيد وعمرو، غير راغب في الدنيا ولا طالب، وهو مع الله بالقلب وإنما مع الناس بالقالب، يجلس في النادي ويجتمع عنده الحاضر والبادي، ولا يخوض معهم فيما خاضوا، ولا يفيض فيما استفاضوا، من أحاديث الحوادث، وفيه أفاضوا، أخذ الصمت والسكوت عادة، وشغل قلبه بما يصلح به منقلبه ومعاده، شيمته الخشية من الله، وعزم في العبادة، جاد غير لاه، مع مراعاة النظر في مصالح الرعية وتدبير الملك بما خبل عليه من الغريزة الألمعية، وأكره شيء إليه: مخالطة الأمور الدنيوية، وأحب شيء إليه: الزهد في هذه الدنيا الدنية، سلك من الواجب العدل والتعبد لقما موضحا، وأخذ من بأسه لمفارق فرق الطغيان مدعسا مرصحا، وإذا صلّى الصبح جلس في مصلاه لا يتكلم حتى يصلي الضحى، فانصلح بصلاحه جميع ذوي قرابته وتعجب الكافة من عجيب أمره وغرابته، وجمعه بين نظم أمور الملك وزهده وخشوعه في عبادته وإنابته، وردّ المدينة بعدله إلى حالة يغبط أهلها على سكناها، وبلغت كل نفس من الخصب والأمن مناها، وأمن الناس على أنفسهم وأهليهم وأموالهم في مناها، وكان عنده وحشة عظيمة من أخذ العشور والمكوس على أنه لم يدخل شيئا منه في مطعوم ومشروب وملبوس، ولم يزل يحمل همها ويتقي سمها إلى أن ظهر الله منها بحسن نيته، وخلوص طويته، وعوضه عنها ما هو خير منها، ورتب له من الحلال مال جزيل عوضا عما تركه من ذلك الحرام القليل، وكان لا يظهر عليه آثار الإمرة والولية، ولا له في ترتيب الأمور المعتادة للأمراء اهتمام ولا عناية، وحكى لي أبو عبد الله محمد بن شقيق الحكري، أحد قضاة المدينة، قال: بلغني ضعفه وانقطاعه في البيت، فتوجهت لعيادته ودخلت عليه لزيارته، فوجدت شخصا على جل ملتفا بكساء عتيق فظننته بعض الخدم أو بعض الرقيق، فقصدت المتغطي حتى أخبرت أنه هو، فأديت من عيادته ما وجب وقضيت من زهادته العجب، ومع ذلك لم يقم بالمدينة سنة كاملة من حين ملكها إلى أن فارقها وتركها، وكان يبالغ في وصية من