لك حتى تبرأ منه، أو نعذر فيك». فقال لهم «ما بي تقولون، ولكن الله بعثني رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن نردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
وأيده الله سبحانه بمعجزة القرآن، وبانشقاق القمر بالعيان، وكفاه أمر المستهزئين مع تجارؤهم على العناد ودفع اليقين، ولو اختار لدمروا وما عمروا، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم كان يرجو هدايتهم ويتوخى إجابتهم، ويأبى الله الا ما أراده.
وأذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم-بعد أن عذب بلال، بحيث اشتراه أبو بكر، وأعتقه، وقتلت سمية أم عمار بن ياسر، بحيث كانت أول قتيل في الإسلام، وضرب سعد بن أبي وقاص رجلا من المشركين، ممن آذاه هو ومن كان يصلي معه بشعب من شعاب مكة، وعاب صنيعهم بلحى بعير فشجّه، فكان أول دم أهرق في الإسلام-إلى غير هذا من شديد الأذى لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة عند حاكمها أصحمة النجاشي، فهاجروا وكان ذلك في رجب سنة خمس، فكانت أول هجرة في الإسلام.
فلما علمت قريش باستقرارهم فيها، وأمنهم عنده، أرسلوا إليه عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ليردهم إلى قومهم، فأبى ورجعا خائبين مع كونه لم يكن حينئذ مسلما، إنما أسلم في سنة تسع قبيل موته، وصلّى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولم يلبث أن رجع المهاجرون، حين قيل لهم:«إن أهل مكة أسلموا»، فلم يجدوا لذلك صحبة، فكان بعضهم في الجوار، وبعضهم متخفيا، وبعضهم لم يدخل مكة.
ثم هاجر المسلمون الهجرة الثانية إلى الحبشة، وأقاموا عند النجاشي على أحسن حال وهم زيادة على مائة من الرجال والنساء.
وفشى الإسلام في القبائل، واجتمعت قريش وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب «أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا منهم» وكتبوه في صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع، فانحاز الهاشميون-غير أبي لهب-والمطلبيون إلى أبي طالب. ودخلوا معه في شعبه، فأقاموا على ذلك سنين حتى جهدوا، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، إلى أن أعلم الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم:«إن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور وظلم، ولم يبق منها إلا ذكر الله سبحانه» فوجد ذلك كذلك، وشلّت يد كاتبها، ففرج الله عنهم، وخرجوا من شعبهم، وذلك في سنة عشر.