وأحلاهم في التحقيق أمانا، أعرض من طرق بلاده وسافر عن دياره وبلاده وهاجر إلى الله على قدم التجريد وانقطع بإخلاصه إلى عالم التحقيق والتفريد، شرق البلاد وغرب، وخبر العباد وجرب وصحب المشايخ المحققين وانتفع بجماعة من أرباب اليقين، ثم انضوى إلى المدينة بنية الجوار وألقى بفنائه عصى التسيار وصادف وروده زمان سطاف وكليا حكى منه المزارع أطراف عصاف فأقام بالمدرسة الشهابية مدة، ولم يكن له غير التوكل عمدة وعدة ثم انتقل إلى رباط دكالة والنفس غير حريصة ولا أكالة، فمكث بها سنين لا يعلم بها أحد حاله، وفي خدمته جماعة من المجاهدين يصارعون الطوى ويقارعون البلاد كأزهد الزاهدين، يطوون مراحل الأيام بقليل من الطعام. كان لهم فقراء معارف عرفوا بالآخرة حالهم وكانوا إذا فرغوا في الحدائق أشغالهم، الغير المحمية، حملوا لهم من سقاطات اللفت والسلق المرمية ورقاب الجزر والبقول اللحمية وأتوا بها اليهم كأنما أنعموا بجزيل من النعم عليهم، فيأخذه خادمهم ويسلقه بالماء، فإذا رجعوا من صلاة العشاء تناولوا منه لقما وما فضل من ذلك أخذه الخادم ورمى به خارج البلد لتأكله البهائم، استمروا على ذلك أعواما لا يعرفون غير ذلك طعاما ولا أداما ففطن لهم بعض الناس فكان يأتيهم بشيء من عشر التمر والشعير ويجتزؤن بذلك بأيسر من اليسير إلى أن انتشر صيتهم واشتهرت أخبارهم وكثر أتباعهم وروادهم والتف عليهم الأعيان والخدام وقصدوا من اليمن والشام، وكان الشيخ رحمه الله يأبى العيش الرغد ولا يدخر شيئا لغد ولا يرد المسكين والفقير ولا يتعدى في الملبس خلق نقير ويتصدق بجميع ما حضر من القليل والكثير، فيقول للسائل: ارفع الحصير وخذ ما تحت الحصير، وإذا أطعم الفقراء حق الأنعام حتى لم يدع في بيته البتة شيئا من الشراب والطعام، واشتهر عنه سيرة السلف الغابرين، وكذلك عن أصحابه الأخيار الصادقين الصابرين، وكان الشيخ رحمه الله إذا دخل المسجد خضع لهيبته كل انسان وإذا رأى منكرا بادر إلى إنكاره باليد، وإلا فباللسان، وكان من باهر كراماته أنه إذا تظلم إليه مظلوم شفع له، فإن شفع فيه وإلا لحق الظالم في الحين منها عقوبة ما فعله، وفي الجملة فله المناقب السنية والمراتب العلية وله القصيدة المباركة المشهورة التي منها:
دار الحبيب أحق أن تهواها … وتحن من طرب إلى ذكراها
والحمد لله الكريم، وهذه … كملت، وظني أنه يرضاها
رأى بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلّم في المنام، وقد أنشده هذه القصيدة وهو صلى الله عليه وسلّم يقول: رضيناها رضيناها، انتهى، وممن روى القصيدة عنه سماعا غير مرة عبد الله بن محمد بن أحمد المطري، ورويناها عن أبي هريرة القبائي إذنا عن العفيف، وعند ابن صالح: عبد الله البسكري. كان رجلا صالحا معتقدا يحسن الخياطة ويشفق على الضعفاء والمساكين ويحب الخير وأهله. تزوج بالمدينة الفقيه على ابن فرحون وتقدم