أثناء كتاب الصلاة في نحو ثلاثمائة مجلس، أولها: السادس عشر بعد المائة، ولكن تخللها يسير في غيره، ثم لما كبر وتعب وصعب عليه التخريج، استروح إلى إملاء غير ذلك مما خرجه له شيخنا أو مما لا يحتاج إلى كبير تعب، فكان من ذلك فيما يتعلق بطول العمر، وأنشد في آخره قوله في أبيات تزيد على عشرين بيتا:
بلغت في ذا اليوم سن الهرم … تهدم العمر كسيل العرم
وآخر ما أملاه كان في صفر سنة ست وثمانمائة لما توقف النيل، وشرق أكثر بلاد مصر، ووقع الغلاء المفرط وختم المجلس بقصيدة أولها:
أقول لمن يشكو توقف نيلنا … سل الله يمدده بفضل وتأييد
وصلّى بالناس صلاة الاستسقاء وخطب خطبة بليغة، فرأوا البركة بعد ذلك من كثرة الشيء ووجوده مع غلائه ومع تمشية أحوال الباعة بعد اشتداد الأمر جدا، وجاء النيل تلك السنة عاليا بحمد الله تعالى، وكان المستملي ولده، وربما استملى البرهان الحلبي أو شيخنا أو الفخر البرماوي، قال شيخنا في معجمه: وكان يمليها من حفظه، متقنة مهذبة محررة، كثيرة الفوائد الحديثية، وحكى رفيقه الحافظ الهيثمي: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلّم في النوم وعيسى عليه السلام عن يمينه وصاحب الترجمة عن يساره، قال شيخنا: وكان منور الشيبة جميل الصورة كثير الوقار، نزر الكلام، طارحا للتكلف، ضيق العيش، شديد التوقي في الطهارة، لا يعتمد إلا على نفسه، أو على الهيثمي المشار إليه، وكان رفيقه وصهره لطيف المزاج سليم الصدر، كثير الحياء، قلّ أن يواجه أحدا بما يكرهه ولو آذاه، متواضعا منجمعا، حسن النادرة والفكاهة، قال: وقد لازمته مدة فلم أره ترك قيام الليل، بل صار له كالمألوف، وإذا صلّى الصبح استمر غالبا في مجلسه مستقبل القبلة، تاليا ذاكرا، إلى أن تطلع الشمس، ويتطوع بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وبستة من شوال، كثير التلاوة إذا ركب، قال: وقد أنجب ولده الولي أحمد، ورزق السعادة في رفيقه الهيثمي، قال: وليس العيان في ذلك كالخبر، وقال في صدر أسئلة له: سألت سيدنا وقدوتنا ومعلمنا ومفيدنا ومخرجنا، شيخ الإسلام، أوحد الأعلام، حسنة الأيام، حافظ الوقت فلانا، وفي أنبائه: أنه صار المنظور إليه في هذا الفن من زمن الأسنائي، وهلم جرا، قال: ولم نر في هذا الفن أتقن منه، وعليه تخرج غالب أهل عصره، ومن أخصهم به: شيخنا صهره الهيثمى وهو الذي درّبه وعلمه كيفية التخريج والتصنيف، بل كان هو الذي يعمل له خطب كتبه ويسميها له، وصال الهيثمي