الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، ولا يكون العبد مهتدياً حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله، فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب.
وكان طريقة الأئمة اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم، بل هو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعله مختاراً على الكتاب والسنة، يعرضهما على قوله، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعاً، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله وهو أصلاً بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد. انتهى، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت: