وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير بعد سيرنا بين أسفارنا، قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداهما أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم بأنهم: دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم فلما فعل ذلك شكوا وتضرروا ولهذا قال سبحانه:
(وظلموا أنفسهم) حيث كفروا بالله وطغوا وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم وعبرة لمن بعدهم، والأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر كما في القاموس. والمعنى جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، وأمرهم وشأنهم واعتباراً بحالهم وعاقبتهم.
(ومزقناهم كل ممزق) أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق بحيث لا يتوقع بعده عود اتصال، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث وذلك إن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال فتقول: تفرقوا أيدي سبأ، وذهبو أيادي سبأ، والأيدي ههنا بمعنى الأولاد لأنهم يعتضد بهم، وفي المفصل الأيدي الأنفس كناية أو مجاز، قال في الكشف: وهو أحسن. قال الشعبي: فلحقت الأنصار يعني الأوس والخزرج بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخراعة بتهامة، وكان الذي قدم منهم المدينة عمر بن عامر وهو جد الأنصار، ولحق آل خزيمة بالعراق.
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم (لآيات) بينات وعبراً ظاهرات ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من هو كثير الصبر عن المعاصي، والشكر لله على نعمه وخص الصبار والشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.