ثم قسم سبحانه هؤلاء الذين أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى لاثة أقسام فقال:
(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) وفي قوله: (بإذن الله) تنبيه على عزة منال هذه الرتبة، وصعوبة مأخذها أي بأمره أو بعلمه، أو بتوفيقه (ذلك) أي توريث الكتاب والاصطفاء وقيل السبق إلى الخيرات، والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره.
(هو الفضل الكبير) أي الفضل الذي لا يقادر قدره، وقد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه، فقيل: إن التقسيم هو راجع إلى العباد أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر ويكون ضمير يدخلونها عائداً إلى المقتصد والسابق، وقيل: المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجى لأمر الله، وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء.
وقيل الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة ووجه كونه ظالاً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظ عظيم وقيل الظالم هو صاحب الكبائر، قلت: ومنشأ الإشكال هو من جعل الوارثين هم العلماء من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو جعلت الوراثة لجميع الأمة زال الإشكال للقطع بأن منهم ظالماً لنفسه، ولا ينافي الاصطفاء لكونهم فضلوا الأمم الآخرة، وقد ورد في ذلك شيء كثير كما لا يخفى ويؤيده ما سيأتي آخر البحث والله أعلم.