بحق خلص عباد الله تعالى، ولا قصد لهؤلاء اللاصقين هذه الأقوال بهم إلا تقوية حججهم ليأخذ الناس بها، لأنها منسوبة إلى أولئك الأعلام، فينقلونها للخاص والعام كي يصدقوها، ولكن من عنده لمعة من عقل أو ذرة من دين يأنف سماعها فضلا عن نقلها، والقول بها هذا. واعلم أن الهم نوعان هم ثابت مع عزم وقصد وعقيدة ورضى مثل هم امرأة العزيز، ومثل هم عمرو بن صابىء الرجمي في قوله:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا النوع يؤاخذ به العبد، ولهذا لمّا أقرّ قائل هذا البيت به أمام الحجاج قتله، وقتله له افراط وتفريط كسائر أفعاله، عليه ما يستحق من الله، لأن مجرد قول هذا البيت لا يستوجب القتل بل التأديب، وهمّ عارض وهو ما يخطر بالقلب أو تحدث به النفس من غير اختيار ولا عزم ولا نية ولا رضى ولا عقيدة كهمّ يوسف عليه السلام، فالعبد ليس مؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل، يؤيد هذا ما روي عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له عشرا. هذا لفظ مسلم، وللبخاري بمعناه، على أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم البتّة كما مشينا عليه من تفسير الآية، ولأن الله تعالى لم يحك عنه شيئا كما حكى عن آدم عليه السلام في قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ٢٣ من سورة البقرة ج ٣، وعن داود عليه السلام في قوله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) الآية ٢٤ من سورة ص في ج ١، وعن موسى عليه السلام في قوله (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) الآية ٢٦ من القصص المارة في ج ١، وعن سليمان عليه السلام في قوله (رَبِّ اغْفِرْ لِي) الآية ٢٦ من سورة ص أيضا، إلى آخر ما جاء عنهم عليهم السلام كنوح وذي النون وغيرهم، فيظهر من هذا أنه براء مما نسب إليه من الهم المطلق لأنه لو وقع منه لأتبعه بالتوبة والاستغفار كإخوانه الأنبياء عليهم السلام، ومن هنا يعلم عدم صدور شيء منه البتة، وما قيل إن هذه الحادثة قبل نبوته مردود لما تقدم أن الله تبارك وتعالى نبأه في البئر، وينافيه سياق الآية، وسياق إتيانه النبوة على هذه الحادثة يرده أيضا، وإن