بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة، ولم يعلموا بزيادة العشر، فلما مضت ظنوا أنه مات، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد، مع ما أظهره الله على يديه من الآيات الباهرات، ولهذا بادىء الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل، قاتلهم الله، إن موسى دعاهم إلى الله سنين، وأظهر لهم المعجزات الباهرة، فلم تثبت دعوته إلى الله الفاعل المختار في قلوبهم، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده، وانقادوا له، ولهذا قال تعالى «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ٥١» في ذلك، لأن العجل عبارة عن صنم، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل، ولا تدبر وبأنه إله موسى، وأن موسى نسيه «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الفعل القبيح، وقبلنا تربتكم «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٥٢» حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم.
[مطلب في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:]
واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
قال موسى عليه السّلام: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر، وإنما شكري إيّاك نعمة منك، فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني. وقال داود عليه السّلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. قال تعالى «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» التوراة «وَالْفُرْقانَ» عطف بيان على الكتاب، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل، بأن يلقي الله تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول، هذا حق وهذا باطل «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ٥٣» بهديه