جعل تنزيل فما بعده خبرا لحميم، وهناك ختم الآية بلفظ الحكيم، وهنا بلفظ «الْعَلِيمِ ٢» بكل ما كان وسيكون في الدنيا والآخرة وهو من تفتن النظم ولا شك أن البليغ علمه بالأشياء وكنهها يكون حكيما بتصرفاتها ووصفها ووضعها في محالها «غافِرِ الذَّنْبِ» مهما كان لمن يشاء عدا الشرك «وَقابِلِ التَّوْبِ» من أي كان مهما كان فاعلا، وساتر لما كان قبل التوبة من الذنوب «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن يبقى مصرا على كفره وعناده لاستكباره عن الرجوع إلى ربه «ذِي الطَّوْلِ» السعة والغنى والأنعام الدائم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ٣» والمرجع في الآخرة. قد اشتملت هذه الآية العظيمة على ست صفات من صفات الله تعالى ملزمة للإقرار بربوبيته واستحقاقه للعبادة إذ جمعت بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وهي وحدها كافية للإيمان به تعالى وبما جاء عنه من كتاب ورسول لمن كان له قلب واع وآذان صاغية.
[مطلب الجدال المطلوب والممنوع وبحث في العرش والملائكة ومحاورة أهل النار:]
قال تعالى «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله ورسله وكتبه، أما المؤمنون فلا يجادلون بل يمتثلون أوامر ربهم فيه وينقادون لها ويسلمون لما جاء به الرسل ويحققونه فعلا. واعلم أن هذه الآية والآية ١٧٦ من سورة البقرة في ج ٣ وهي (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) من أشد آيات القرآن على المجادلين فيه. أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: إن جدالا في القرآن كفر، وقال المراء في القرآن كفر.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما يتمارون، فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عزّ وجل بعضه ببعض، وإنما أنزل الكتاب ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعضه فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج صلّى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.
وقد نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال