كيف يتصور ذلك «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» ٢٠ لأن الولد لا يكون إلا بنكاح أو سفاح، وكلاهما لم يكن، وهذا استفهام تعجب. وهناك أي استفهام زكريا المار في الآية ٨ استفهام استطلاع عن الكيفية والتذاذ بسماع الجواب السّار
«قالَ كَذلِكِ» إن الأمر كما ذكرت لك، ولا أعلم غير ما أمرت به. ولكن «قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» وإن كان مستحيلا عادة إتيان الولد من غير مس، لأن الله تعالى يأتي بالمستحيل من غير حاجة إلى الأسباب ألا تعلمين أنه خلق آدم من لا شيء وخلق حواء منه، فالذي يخلق من غير أم وأب ومن غير أم ألا يقدر أن يخلق من غير أب وهو الفعال لما يريد؟ بلى يسهل عليه ذلك، ثم قال لها وإن ربك قال «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ» كما جعلنا آدم وحواء قبله آيتين للخلق في زمنهما من الملائكة والجنّ، كذلك نجعل الولد الذي سيكون منك آية لهم دالة على قدرة ربك البالغة «وَرَحْمَةً مِنَّا» لمن يؤمن به ويتبعه «وَكانَ» ابنك هذا مكتوبا في أزل ربك بأنه يكون من هذه النفخة بأمره «أَمْراً مَقْضِيًّا» ٢١ محكما مبرما لا يبدل ولا يرد. فلما سمعت هذا وعرفته أنه من الله سكتت، فتقدم جبريل عليه السلام وأخذ درعها من الأرض ورفعه فنفخ فيه وأعطاه إياها، فلبسته بعد أن اطمأنت إليه «فَحَمَلَتْهُ» أحست بحمله حالا، ولما بدأ حملها خافت أن يعرف الناس ذلك وهي مشهورة بالعفّة والطهارة ومن بيتهما، وعرفت أنها إذا قالت من الله بواسطة الملك لا يصدقونها، فصمّمت على الخروج من القرية لترى ما يرى الله لها «فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا» ٢٢ بعيدا عن قربتها وأهلها لئلا يعيروها، والباء في (به) للمصاحبة والملابسة لأنه في بطنها كقوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) الآية ٢٢ من سورة المؤمنين في ج ٢، وعليه قول المتنبي في وصف الخيل:
فمرت غير ناظرة عليهم ... تدوس الجماجم والرؤوسا
أي اعتزلتهم «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» الجأها أو فاجأها وجع الولادة المسمى طلقا بعرفتا «إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» الكائن في بيت لحم في فلسطين وهو يبعد