لأن رزءه كان قاعدة الارزاء عنده، وقد أخذ بمجامع قلبه فصار لا يزول عن فكره ولا ينساه، وقيل في هذا:
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
[مطلب جواز البكاء والحزن والأسف بما دون الضجر وتحريم شق الجيب وتحجيم الوجه واللطم وقص الشعر:]
ولا يقال إن هذه شكاية منه عليه السلام ولا يليق بمنصب النبوة صدورها، لأنه عليه السلام إنما شكا أمره إلى الله لا إلى غيره، ولم يشتك من الله لأحد لأن باء النداء مختصة بالأسماء، فكأنه قال يا رب ارحم أسفي على يوسف، فكان غير ملوم، وشكواه إليه تعالى، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ» على أولاده للثلاثة «فَهُوَ كَظِيمٌ ٨٤» الحزن ممتلىء القلب به لأنه لا يبثّه إلى أحد إلا إلى ربه، وقد غشى عينيه بياض من كثرة الدمع لا أنه عمي وفقد النظر فيها، لذلك فلا صحة لقول من قال إنه عمي، لأن العمى عيب والأنبياء مبرأون من جميع العيوب الحسية والمعنوية، وتؤذن هذه الآية بجواز التأسف والبكاء عند المصيبة، لأن الكف عن أمثال ذلك عند حدوث النوائب لا يدخل تحت التكليف، ويخرج عن الوسع والطاقة، فقد قل من يملك نفسه عند الشدائد، روى الشيخاني في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون. وهذا فإن البكاء والحزن والتأسف بما دون الضجر غير منهي عنه شرعا، وإنما المنهي عنه ما يفعله بعض الجهلة من النياحة، ولطم الخدود، وضرب الصدور، وشق الجيوب، والتحمم، وتمزيق الثياب، وقص الشعر، ونثر التراب، وتخميش الوجه، ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلّى الله عليه وسلم رفع إليه صبيّ لبعض بناته يجرد بنفسه، فأقعده في حجره ونفسه تنقعقع كأنها في شنّ، ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟ فقال هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده، وانما يرحم الله من عباده الرحماء. وفي الكشاف: قال يا رسول الله تبكي وقد